للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول تعالى: إذا خفت من قوم خيانة، فانبذ إليهم عهدهم على سواء، فإن استمروا على حربك ومنابذتك، فقاتلهم ﴿وَإِنْ جَنَحُوا﴾ أي مالوا ﴿لِلسَّلْمِ﴾ أي المسالمة والمصالحة والمهادنة، ﴿فَاجْنَحْ لَها﴾ أي فمل إليها واقبل منهم ذلك، ولهذا لما طلب المشركون، عام الحديبية الصلح، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله ، تسع سنين، أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثني فضيل بن سليمان يعني النميري، حدثنا محمد بن أبي يحيى، عن إياس بن عمرو الأسلمي، عن علي بن أبي طالب ، قال: قال رسول الله : «إنه سيكون اختلاف أو أمر فإن استطعت أن يكون السلم فافعل» (١).

وقال مجاهد: نزلت في بني قريظة (٢)، وهذا فيه نظر، لأن السياق كله في وقعة بدر، وذكرها مكتنف لهذا كله، وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩] الآية، وفيه نظر أيضا، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إن كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص، والله أعلم.

وقوله ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ أي صالحهم وتوكل على الله، فإن الله كافيك وناصرك ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة، ليتقووا ويستعدوا ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ﴾ أي كافيك وحده، ثم ذكر نعمته عليه مما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ أي جمعها على الإيمان بك، وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك، ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ أي لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، بين الأوس والخزرج، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان، كما قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٣].

وفي الصحيحين: أن رسول الله لما خطب الأنصار، في شأن غنائم حنين، قال لهم:

«يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلاّلا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي» كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمنّ (٣)، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ﴾


(١) أخرجه أحمد في المسند ١/ ٩٠.
(٢) انظر تفسير الطبري ٦/ ٢٧٩.
(٣) أخرجه البخاري في المغازي باب ٥٦، ومسلم في الزكاة حديث ١٣٩، وأحمد في المسند ٣/ ٥٧، ٧٦، ١٠٤، ٢٥٣، ٤/ ٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>