للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الناس: لما كان صنيعهم هذا مرتبا على فعلهم الأول، سحب حكم الأول عليه، وصح قوله:

﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة:

يوسف وأخاه بنيامين وروبيل الذي أقام بديار مصر ينتظر أمر الله فيه، إما أن يرضى عنه أبوه، فيأمره بالرجوع إليه، وإما أن يأخذ أخاه خفية، ولهذا قال: ﴿عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ﴾ أي العليم بحالي، ﴿الْحَكِيمُ﴾ في أفعاله وقضائه وقدره.

﴿وَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ﴾ أي أعرض عن بنيه، وقال متذكرا حزن يوسف القديم الأول ﴿يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ﴾ جدد له حزن الابنين الحزن الدفين، قال عبد الرزاق:

أنبأنا الثوري عن سفيان العصفري، عن سعيد بن جبير أنه قال: لم يعط أحد غير هذه الأمة الاسترجاع (١)، ألا تسمعون إلى قول يعقوب ﴿يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ (٢) أي ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق، قاله قتادة وغيره. وقال الضحاك: فهو كظيم كئيب حزين.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن، عن الأحنف بن قيس أن النبي قال: «إن داود قال: يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاجعلني لهم رابعا، فأوحى الله تعالى إليه: أن يا داود إن إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن إسحاق بذل مهجة دمه بسببي فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن يعقوب أخذت منه حبيبه فابيضت عيناه من الحزن فصبر، وتلك بلية لم تنلك». وهذا مرسل وفيه نكارة، فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح، ولكن علي بن زيد بن جدعان له، مناكير وغرائب كثيرة، والله أعلم.

وأقرب ما في هذا أن الأحنف بن قيس حكاه عن بعض بني إسرائيل ككعب ووهب ونحوهما، والله أعلم، فإن بني إسرائيل ينقلون أن يعقوب كتب إلى يوسف لما احتبس أخاه بسبب السرقة يتلطف له في رد ابنه، ويذكر له أنهم أهل بيت مصابون بالبلاء، فإبراهيم ابتلي بالنار، وإسحاق بالذبح، ويعقوب بفراق يوسف، في حديث طويل لا يصح، والله أعلم، فعند ذلك رق له بنوه.

وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه: ﴿تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ أي لا تفارق تذكر يوسف ﴿حَتّى تَكُونَ حَرَضاً﴾ أي ضعيف القوة ﴿أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ﴾ يقولون إن استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك والتلف ﴿قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾ أي أجابهم عما قالوا بقوله: ﴿إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي﴾ أي همي وما أنا فيه ﴿إِلَى اللهِ﴾ وحده، ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾


(١) الاسترجاع: أي القول: «إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ»، إذا نزلت مصيبة.
(٢) انظر تفسير الطبري ٧/ ٢٧٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>