وهو نبيها، يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى: ﴿ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي في الاعتذار، لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه، كقوله: ﴿هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥ - ٣٦] فلهذا قال: ﴿وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أي الذين أشركوا ﴿الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ﴾ أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة.
﴿وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي لا يؤخر عنهم بل يأخذهم سريعا من الموقف بلا حساب، فإنه إذا جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فيشرف عنق منها على الخلائق، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه، فتقول: إني وكلت بكل جبار عنيد الذي جعل مع الله إلها آخر وبكذا وبكذا، وتذكر أصنافا من الناس، كما جاء في الحديث، ثم تنطوي عليهم وتلتقطهم من الموقف كما يلتقط الطائر الحب، قال الله تعالى: ﴿إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً﴾ [الفرقان: ١٢ - ١٤]، وقال تعالى: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً﴾ [الكهف: ٥٣] وقال تعالى: ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٩ - ٤٠].
ثم أخبر تعالى عن تبري آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها فقال: ﴿وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ﴾ أي الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ﴿قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ﴾ أي قالت لهم الآلهة: كذبتم ما نحن أمرناكم بعبادتنا، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ﴾ [الأحقاف: ٥ - ٦] وقال تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ [مريم: ٨١ - ٨٢] وقال الخليل ﵊ ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [العنكبوت: ٢٥] الآية، وقال تعالى: ﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ﴾ [الكهف: ٥٢] الآية، والآيات في هذا كثيرة.
وقوله: ﴿وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ قال قتادة وعكرمة: ذلوا واستسلموا يومئذ، أي استسلموا لله جميعهم فلا أحد إلا سامع مطيع، وكقوله تعالى: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا﴾ [مريم: ٣٨] أي ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ، وقال: ﴿وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا﴾ [السجدة: ١٢] الآية، وقال: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾ [طه: ١١١] أي خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت. وقوله ﴿وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أي ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على الله فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجير.