للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بهم، ﴿لا جَرَمَ﴾ أي لا بد ولا عجب أن من هذه صفته ﴿أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة-وأما قوله: ﴿إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ﴾ فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله.

وقد روى العوفي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد ، فوافقهم على ذلك مكرها، وجاء معتذرا إلى النبي ، فأنزل الله هذه الآية. وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك.

وقال ابن جرير (١): حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي ، فقال النبي : «كيف تجد قلبك»؟ قال: مطمئنا بالإيمان. قال النبي : «إن عادوا فعد».

ورواه البيهقي بأبسط من ذلك، وفيه أنه سب النبي ، وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك النبي فقال: يا رسول الله ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير، قال: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئنا بالإيمان، فقال «إن عادوا فعد»، وفي ذلك أنزل الله ﴿إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ﴾ ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم، وهو يقول: أحد، أحد. ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك.

وقال الإمام أحمد (٢): حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن عكرمة أن عليا حرق ناسا ارتدوا عن الإسلام، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لم أكن لأحرقهم بالنار، إن رسول الله قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» وكنت أقاتلهم بقول رسول الله : «من بدل دينه فاقتلوه» فبلغ ذلك عليا فقال: ويح أم ابن عباس، رواه البخاري (٣).


(١) تفسير الطبري ٧/ ٦٥١.
(٢) المسند ١/ ٢١٧.
(٣) كتاب الاستتابة باب ٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>