للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا، ومن المهاجرين ستة، فقال أصحاب رسول الله : لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنربينّ عليهم، فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم، فنادى مناد: إن رسول الله قد أمن الأسود والأبيض إلا فلانا وفلانا-ناسا سماهم-فأنزل الله ﴿وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ إلى آخر السورة، فقال رسول الله : «نصبر ولا نعاقب» (١).

وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل كما في قوله: ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ ثم قال: ﴿فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ [الشورى: ٤٠] الآية. وقال: ﴿وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ﴾ ثم قال ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ﴾ [المائدة: ٤٥] وقال في هذه الآية: ﴿وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ ثم قال ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ﴾.

وقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللهِ﴾ تأكيد للأمر بالصبر وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته، وحوله وقوته، ثم قال تعالى: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ أي على من خالفك فإن الله قدر ذلك ﴿وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ﴾ أي غم ﴿مِمّا يَمْكُرُونَ﴾ أي مما يجهدون أنفسهم في عداوتك وإيصال الشر إليك، فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ومظفرك بهم.

وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ أي معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه وهذه معية خاصة كقوله: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأنفال: ١٢] وقوله لموسى وهارون: ﴿لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى﴾ [طه: ٤٦] وقول النبي للصديق وهما في الغار: ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا﴾ [التوبة: ٤٠] وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم، كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد: ٤] وكقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا﴾ [المجادلة: ٧] وكما قال تعالى: ﴿وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً﴾ [يونس: ٦١] الآية، ومعنى ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ أي تركوا المحرمات، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ أي فعلوا الطاعات، فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ويؤيدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا مسعر عن عون عن محمد بن حاطب:

كان عثمان من الذين اتقوا والذين هم محسنون.

آخر تفسير سورة النحل، ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.


(١) أخرجه أحمد في المسند ٥/ ١٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>