للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنما يتبعون أهواءهم، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب وهو التوراة، فحرفوها وبدلوها وخالفوا أوامرها وأولوها، وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته كما قال تعالى: ﴿إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ﴾ [المائدة: ٤٤]: ولهذا قال تعالى: ﴿وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ قال السدي عن أبي مالك: أتبعنا، وقال غيره: أردفنا والكل قريب كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا﴾ [المؤمنون: ٤٤] حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام، ولهذا أعطاه الله من البينات وهي المعجزات، قال ابن عباس من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله، وإبراء الأسقام، وإخباره بالغيوب، وتأييده بروح القدس وهو جبريل -ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به، فاشتد تكذيب بني إسرائيل له، وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض، كما قال تعالى إخبارا عن عيسى: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: ٥٠]، فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أسوأ المعاملة، ففريقا يكذبونه، وفريقا يقتلونه، وما ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم، وبالإلزام بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها، فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم، وربما قتلوا بعضهم، ولهذا قال تعالى: ﴿أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾.

والدليل على أن روح القدس هو جبريل، كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية، وتابعه على ذلك ابن عباس ومحمد بن كعب وإسماعيل بن خالد والسدي والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة مع قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [الشعراء:١٩٣] ما قال البخاري (١) وقال ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن عروة عن عائشة: أن رسول الله ، وضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد، فكان ينافح عن رسول الله ، فقال رسول الله «اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك» فهذا من البخاري تعليقا. وقد رواه أبو داود في سننه عن ابن سيرين والترمذي، عن علي بن حجر وإسماعيل بن موسى الفزاري، ثلاثتهم، عن أبي عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه وهشام بن عروة، كلاهما عن عروة، عن عائشة به. قال الترمذي: حسن صحيح، وهو حديث أبي الزناد، وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن عمر بن الخطاب مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال أنشدك الله، أسمعت رسول الله يقول: «أجب عني اللهم أيده بروح القدس» فقال: اللهم نعم، وفي بعض الروايات: أن رسول الله ، قال لحسان


(١) صحيح البخاري (صلاة باب ٦٨؛ وبدء الخلق باب ٦)

<<  <  ج: ص:  >  >>