للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلرُّسُلِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْقُرُونَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ على الإسلام كما قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ لَسْتُمْ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ وَقَدْ كَذَّبْتُمْ أَشْرَفَ الرُّسُلِ وَأَكْرَمَ الْخَلَائِقِ، فَعُقُوبَتُكُمْ أولى وأحرى.

وقوله: وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أَيْ هو عالم جميع أَعْمَالِهِمْ: خَيْرِهَا وَشَرِّهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خافية سبحانه وتعالى.

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٨ الى ١٩]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩)

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَا كُلُّ مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ يحصل عليه، بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يَشَاءُ، وَهَذِهِ مُقَيَّدَةٌ لِإِطْلَاقِ مَا سِوَاهَا مِنَ الْآيَاتِ، فَإِنَّهُ قَالَ: عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ أي في الدار الْآخِرَةِ يَصْلاها أَيْ يَدْخُلُهَا حَتَّى تَغْمُرَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ مَذْمُوماً أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَذْمُومًا عَلَى سُوءِ تَصَرُّفِهِ وَصَنِيعِهِ، إِذِ اخْتَارَ الْفَانِي عَلَى الْبَاقِي مَدْحُوراً مُبْعَدًا مُقْصِيًّا حَقِيرًا ذليلا مهانا.

روى الإمام أحمد «١» : حدثنا حسين، حدثنا رويد عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زُرْعَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» . وَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ أَيْ أَرَادَ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ وَسَعى لَها سَعْيَها أَيْ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِهِ وهو متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي قلبه مُؤْمِنٌ، أَيْ مُصَدِّقٌ بِالثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً.

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٠ الى ٢١]

كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١)

يَقُولُ تَعَالَى: كُلًّا أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الَّذِينَ أَرَادُوا الدُّنْيَا وَالَّذِينَ أرادوا الآخرة نمدهم فيما فِيهِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ الحاكم الذي لا يجوز، فيعطي كلا ما يستحقه من السعادة والشقاوة، فلا رَادَّ لِحُكْمِهِ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُغَيِّرَ لِمَا أَرَادَ، وَلِهَذَا قَالَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أَيْ لَا يَمْنَعُهُ أَحَدٌ، وَلَا يَرُدُّهُ رَادٌّ. قَالَ قَتَادَةُ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أي منقوصا «٢» ، وقال الحسن وغيره: أي مَمْنُوعًا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أي فِي الدُّنْيَا، فَمِنْهُمُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْحَسَنُ وَالْقَبِيحُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَمَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا، ومن يعمر حتى يبقى شيخا


(١) المسند ٦/ ٧١.
(٢) انظر تفسير الطبري ٨/ ٥٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>