للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً أي إنه لَا يُعَاجِلُ مَنْ عَصَاهُ بِالْعُقُوبَةِ بَلْ يُؤَجِّلُهُ وَيُنْظِرُهُ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ أَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [هود: ١٠٢] الآية، وَقَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ [الحج: ٤٨] الآية، وَقَالَ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ [الحج: ٤٥] الآيتين، وَمَنْ أَقْلَعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ كُفْرٍ أو عصيان، ورجع إلى الله تاب إليه وتاب عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ

[النساء: ١١٠] الآية، وَقَالَ هَاهُنَا إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً كَمَا قَالَ فِي آخِرِ فَاطِرٍ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [فاطر: ٤١] إِلَى أَنْ قَالَ وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ [فاطر: ٤٥] إلى آخر السورة.

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]

وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦)

يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذَا قَرَأْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْقُرْآنَ، جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا مَسْتُورًا. قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الْأَكِنَّةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:

وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فُصِّلَتْ: ٥] أَيْ مَانِعٌ حَائِلٌ أَنْ يَصِلَ إِلَيْنَا مما تقول شيء. وقوله حِجاباً مَسْتُوراً بمعنى ساتر كميمون ومشؤوم بمعنى يامن وشائم، لأنهم من يمنهم وشؤمهم، وَقِيلَ: مَسْتُورًا عَنِ الْأَبْصَارِ فَلَا تَرَاهُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ حِجَابٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى، وَمَالَ إِلَى تَرْجِيحِهِ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الْهَرَوِيُّ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ تَدْرُسَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [الْمَسَدِ: ١] جَاءَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ وَهِيَ تَقُولُ: مذمما أَتَيْنَا- أَوْ أَبَيْنَا- قَالَ أَبُو مُوسَى: الشَّكُّ مِنِّي، وَدِينَهُ قَلَيْنَا، وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر رضي الله عنه: لَقَدْ أَقْبَلَتْ هَذِهِ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ «إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي» وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ مِنْهَا وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً قَالَ: فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ تَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ هجاني، قال أَبُو بَكْرٍ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، قَالَ: فَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ: لَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي بِنْتُ سَيِّدِهَا.

وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وهي جَمْعُ كِنَانٍ الَّذِي يَغْشَى الْقَلْبَ أَنْ يَفْقَهُوهُ أَيْ لِئَلَّا يَفْهَمُوا الْقُرْآنَ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وهو الثقل الذي منعهم مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ سَمَاعًا يَنْفَعُهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>