بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه، وأنه على ما يشاء قادر، فقال ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ﴾ وهي مريم بنت عمران من سلالة داود ﵇. وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل، وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران، وأنها نذرتها محررة، أي تخدم مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك ﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً﴾ [آل عمران: ٣٧] ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب، وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك، وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم، ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره.
﴿كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧] فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف، وثمر الصيف في الشتاء، كما تقدم بيانه في سورة آل عمران، فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة، أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى ﵇ أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام ﴿اِنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا﴾ أي اعتزلتهم وتنحت عنهم، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس. وقال السدي لحيض أصابها، وقيل لغير ذلك.
قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه، وما صرفهم عنه إلا قيل ربك: ﴿اِنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا﴾ قال: خرجت مريم مكانا شرقيا، فصلوا قبل مطلع الشمس، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وقال ابن جرير (١) أيضا: حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا خالد بن عبد الله عن داود عن عامر، عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله تعالى: ﴿اِنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا﴾ واتخذوا ميلاد عيسى قبلة. وقال قتادة ﴿مَكاناً شَرْقِيًّا﴾ شاسعا منتحيا، وقال محمد بن إسحاق: ذهبت بقلتها لتستقي الماء. وقال نوف البكالي: اتخذت لها منزلا تتعبد فيه، فالله أعلم.
وقوله: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً﴾ أي استترت منهم وتوارت، فأرسل الله تعالى إليها جبريل ﵇ ﴿فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا﴾ أي على صورة إنسان تام كامل. قال مجاهد والضحاك وقتادة وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في قوله: ﴿فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا﴾ يعني جبرائيل ﵇، وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن، فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى:
﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٣ - ١٩٤] وقال أبو جعفر