للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عن عبد العزيز بن زياد، عن أنس بن مالك قال: كان عيسى ابن مريم قد درس الإنجيل وأحكمها وهو في بطن أمه، فذلك قوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ يحيى بن سعيد العطار الحمصي متروك.

وقوله: ﴿وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ﴾ قال مجاهد وعمرو بن قيس والثوري: وجعلني معلما للخير. وفي رواية عن مجاهد: نفاعا. وقال ابن جرير (١): حدثني سليمان بن عبد الجبار، حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي، سمعت وهيب بن الورد مولى بني مخزوم قال: لقي عالم عالما هو فوقه في العلم، فقال له: يرحمك الله ما الذي أعلن من عملي؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده، وقد أجمع الفقهاء على قول الله: ﴿وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ﴾ وقيل: ما بركته؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان. وقوله: ﴿وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا﴾ كقوله تعالى لمحمد : ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: ٩٩]. وقال عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس في قوله ﴿وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا﴾ قال: أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت، ما أبينها لأهل القدر.

وقوله: ﴿وَبَرًّا بِوالِدَتِي﴾ أي وأمرني ببر والدتي، ذكره بعد طاعة الله ربه، لأن الله تعالى كثيرا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين، كما قال تعالى: ﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً﴾ [الإسراء: ٢٣] وقال ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان:١٤]. وقوله: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا﴾ أي ولم يجعلني جبارا مستكبرا عن عبادته وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك. قال سفيان الثوري: الجبار الشقي الذي يقتل على الغضب. وقال بعض السلف: لا تجد أحدا عاقا لوالديه إلا وجدته جبارا شقيا، ثم قرأ: ﴿وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا﴾ قال: ولا تجد سيئ الملكة (٢) إلا وجدته مختالا فخورا، ثم قرأ:

﴿وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً﴾ [النساء: ٣٦].

قال قتادة: ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات سلطه الله عليهن وأذن له فيهن، فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، وطوبى للثدي الذي أرضعت به، فقال نبي الله عيسى يجيبها: طوبى لمن تلا كتاب الله فاتبع ما فيه، ولم يكن جبارا شقيا (٣). وقوله: ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ إثبات منه لعبوديته لله ﷿، وأنه مخلوق من خلق الله يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد، صلوات الله وسلامه عليه.


(١) تفسير الطبري ٨/ ٣٣٨.
(٢) سيئ الملكة: هو الذي يسيء صحبة ومعاملة المماليك.
(٣) انظر تفسير الطبري ٨/ ٣٣٩، ٣٤٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>