للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الناس، وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله ، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه، وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة، فأقبلوا سراعا، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وحفظه من الفرية، وقال الله: ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ﴾ فلما بين الله قضاءه، وبرأه من سجع الشيطان، انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين، واشتدوا عليهم، وهذا أيضا مرسل.

وفي تفسير ابن جرير عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه، وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة، فلم يجز به موسى بن عقبة ساقه من مغازيه بنحوه، قال: وقد روينا عن ابن إسحاق هذه القصة.

(قلت) وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات، والله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك، ثم سأل هاهنا سؤالا: كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه؟ ثم حكى أجوبة عن الناس من ألطفها أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنه صدر عن رسول الله ، وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا من رسول الرحمن ، والله أعلم.

وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته. وقد تعرض القاضي عياض في كتاب الشفاء لهذا، وأجاب بما حاصله أنها كذلك لثبوتها. وقوله: ﴿إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، أي لا يهيدنك ذلك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء.

قال البخاري (١): قال ابن عباس ﴿فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ﴾. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ﴿إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ يقول: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وقال مجاهد ﴿إِذا تَمَنّى﴾ يعني إذا قال، ويقال ﴿أُمْنِيَّتِهِ﴾ قراءته ﴿إِلاّ أَمانِيَّ﴾ يقولون ولا يكتبون. قال البغوي وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: ﴿تَمَنّى﴾ أي تلا وقرأ كتاب الله و ﴿أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ أي في تلاوته، قال الشاعر في عثمان حين قتل: [الطويل] تمنى كتاب الله أول ليلة … وآخرها لاقى حمام المقادر (٢)


(١) كتاب التفسير، تفسير سورة ٢٢، في الترجمة.
(٢) البيت لحسان بن ثابت في تفسير البحر المحيط ٦/ ٣٨٢، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في لسان العرب (من)، ومقاييس اللغة ٥/ ٢٧٧، وكتاب العين ٨/ ٣٩٠، وتاج العروس (من)

<<  <  ج: ص:  >  >>