للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يوم القيامة، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار، الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة فيهديهم بعد ذلك إلى الحق، كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب: ﴿اِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الحديد: ١٧].

وقوله تعالى: ﴿وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا﴾ أي من الأعمال، وفي قوله تعالى: ﴿وَآثارَهُمْ﴾ قولان:

[أحدهما] نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي آثروها من بعدهم فنجزيهم على ذلك أيضا إن خيرا فخير وإن شرا فشر، كقوله : «من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» (١) رواه مسلم من رواية شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه جرير بن عبد الله البجلي ، وفيه قصة مجتابي النّمار المضريين، ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن يحيى بن سليمان الجعفي، عن أبي المحياة يحيى بن يعلى عن عبد الملك بن عمير عن جرير بن عبد الله فذكر الحديث بطوله، ثم تلا هذه الآية ﴿وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ﴾ وقد رواه مسلم من رواية أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن المنذر بن جرير عن أبيه فذكره.

وهكذا الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده» (٢)، وقال سفيان الثوري عن أبي سعيد ، قال:

سمعت مجاهدا يقول في قوله تعالى: ﴿إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ﴾ قال:

ما أورثوا من الضلالة. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى:

﴿وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ﴾ يعني ما أثروا، يقول: ما سنوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم، فإن كانت خيرا فلهم مثل أجورهم لا ينقص من أجر من عمل به شيئا، وإن كانت شرا فعليهم مثل أوزارهم ولا ينقص من أوزار من عمل بها شيئا، ذكرهما ابن أبي حاتم، وهذا القول هو اختيار البغوي.

[والقول الثاني] أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية، قال ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد ﴿ما قَدَّمُوا﴾ أعمالهم ﴿وَآثارَهُمْ﴾ قال: خطاهم بأرجلهم، وكذا قال الحسن وقتادة ﴿وَآثارَهُمْ﴾ يعني خطاهم. وقال قتادة: لو كان الله ﷿ مغفلا شيئا من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله تعالى أو من معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره


(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٧٠.
(٢) أخرجه مسلم في الوصية حديث ١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>