للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أي لينذر هذا القرآن المبين كُلَّ حَيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: ١٩] وقال جل وعلا: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هُودٍ: ١٧] وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِنِذَارَتِهِ مَنْ هُوَ حَيُّ الْقَلْبِ مُسْتَنِيرُ الْبَصِيرَةِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: حَيُّ الْقَلْبِ حَيُّ الْبَصَرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ يَعْنِي عَاقِلًا «١» وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ أَيْ هُوَ رَحْمَةٌ للمؤمنين وحجة على الكافرين.

[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧١ الى ٧٣]

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣)

يَذْكُرُ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَنْعَامِ الَّتِي سَخَّرَهَا لَهُمْ فَهُمْ لَها مالِكُونَ قَالَ قَتَادَةُ: مُطِيقُونَ، أَيْ جَعَلَهُمْ يَقْهَرُونَهَا وَهِيَ ذَلِيلَةٌ لَهُمْ، لَا تَمْتَنِعُ مِنْهُمْ، بَلْ لَوْ جَاءَ صَغِيرٌ إِلَى بَعِيرٍ لَأَنَاخَهُ، وَلَوْ شَاءَ لَأَقَامَهُ وَسَاقَهُ، وَذَاكَ ذَلِيلٌ مُنْقَادٌ مَعَهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْقِطَارُ مِائَةُ بَعِيرٍ أَوْ أَكْثَرُ لَسَارَ الْجَمِيعُ بسير الصغير. وقوله تعالى: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ أَيْ مِنْهَا مَا يَرْكَبُونَ فِي الْأَسْفَارِ وَيَحْمِلُونَ عَلَيْهِ الْأَثْقَالَ إِلَى سائر الجهات والأقطار وَمِنْها يَأْكُلُونَ إذا شاؤوا ونحروا وَاجْتَزَرُوا وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ أَيْ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ وَمَشارِبُ أَيْ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا لِمَنْ يَتَدَاوَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَفَلا يَشْكُرُونَ أَيْ أَفَلَا يُوَحِّدُونَ خَالِقَ ذلك ومسخره ولا يشركون به غيره؟.

[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)

يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمُ الْأَنْدَادَ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ تَنْصُرَهُمْ تِلْكَ الْآلِهَةُ وَتَرْزُقَهُمْ وَتُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ أَيْ لَا تَقْدِرُ الْآلِهَةُ عَلَى نَصْرِ عَابِدِيهَا بَلْ هِيَ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ وأقل وأحقر وأدحر، بل لا تقدر على الاستنصار لِأَنْفُسِهَا، وَلَا الِانْتِقَامِ مِمَّنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ، لِأَنَّهَا جماد لا تسمع ولا تعقل.

وقوله تبارك وتعالى: وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي عِنْدَ الْحِسَابِ يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ مَحْشُورَةٌ مَجْمُوعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُحْضَرَةٌ عِنْدَ حِسَابِ عَابِدِيهَا، ليكون ذلك أبلغ في حزنهم وَأَدُلَّ عَلَيْهِمْ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ يَعْنِي الْآلِهَةَ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ وَالْمُشْرِكُونَ يَغْضَبُونَ لِلْآلِهَةِ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ لَا تَسُوقُ إِلَيْهِمْ خَيْرًا وَلَا تدفع عنهم شرا، إِنَّمَا هِيَ أَصْنَامٌ، وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَهَذَا الْقَوْلُ حَسَنٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ رحمه الله تعالى. وقوله تعالى: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ أي تكذيبهم لك


(١) انظر تفسير الطبري ١٠/ ٤٦١.

<<  <  ج: ص:  >  >>