للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قِيلَ مَعْنَاهُ لِيُسَخِّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْأَعْمَالِ لِاحْتِيَاجِ هَذَا إِلَى هَذَا، وَهَذَا إِلَى هَذَا، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ لِيَمْلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ: ثُمَّ قال عز وجل: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أَيْ رَحْمَةُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ ومتاع الحياة الدنيا، ثم قال سبحانه وتعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أَيْ لَوْلَا أَنْ يَعْتَقِدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْجَهَلَةِ أَنَّ إِعْطَاءَنَا الْمَالَ دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّتِنَا لِمَنْ أَعْطَيْنَاهُ فَيَجْتَمِعُوا عَلَى الْكُفْرِ لِأَجْلِ الْمَالِ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ أَيْ سَلَالِمَ وَدَرَجًا مِنْ فِضَّةٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ عَلَيْها يَظْهَرُونَ أَيْ يَصْعَدُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا أَيْ أغلاقا على أبوابهم وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ أَيْ جَمِيعُ ذَلِكَ يَكُونُ فِضَّةً وَزُخْرُفاً أَيْ وَذَهَبًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زيد.

ثم قال تبارك وتعالى: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ الْحَقِيرَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ يُعَجِّلُ لَهُمْ بِحَسَنَاتِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا مَآكِلَ وَمَشَارِبَ ليوافوا الآخرة، وليس لهم عند الله تبارك وتعالى حَسَنَةً يَجْزِيهِمْ بِهَا كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ الصحيح. وورد فِي حَدِيثٍ آخَرَ «لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى مِنْهَا كَافِرًا شَرْبَةَ مَاءٍ» أَسْنَدَهُ الْبَغَوِيُّ مِنْ رِوَايَةِ زَكَرِيَّا بْنِ مَنْظُورٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم «لو عدلت الدنيا عند الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا أَعْطَى كَافِرًا مِنْهَا شَيْئًا» .

ثم قال سبحانه وتعالى: وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ أَيْ هِيَ لَهُمْ خَاصَّةً لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، وَلِهَذَا لما قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَعِدَ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَشْرُبَةِ لَمَّا آلَى صلى الله عليه وسلم من نسائه فرآه عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِهِ، فَابْتَدَرَتْ عَيْنَاهُ بِالْبُكَاءِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متكئا فجلس وقال: «أو فيّ شاك أنت يا ابن الخطاب؟» ثم قال صلى الله عليه وسلم أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا» «١» وَفِي رِوَايَةٍ «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ» «٢» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا وَغَيْرِهِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ» «٣» وَإِنَّمَا خَوَّلَهُمُ الله تعالى


(١) أخرجه البخاري في المظالم باب ٢٥، ومسلم في الرضاع حديث ١٠١، وأحمد في المسند ١/ ٣٤، ٢/ ٢/ ٢٩٨.
(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٦٦ باب ٢، وابن ماجة في الزهد باب ١١.
(٣) أخرجه البخاري في الأطعمة باب ٢٩، ومسلم في اللباس حديث ٤، ٥، وابن ماجة في الأشربة باب ٢٥، وأحمد في المسند ١/ ٣٢١، ٤/ ٧٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>