للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِلَيْهِ، وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْعِلْمِ فَإِنَّمَا فَرَّ لِئَلَّا يَلْزَمَ حُلُولٌ أَوِ اتِّحَادٌ وَهُمَا مَنْفَيَّانِ بِالْإِجْمَاعِ، تَعَالَى اللَّهُ وَتَقَدَّسَ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِيهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقِلْ: وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وَإِنَّمَا قَالَ:

وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ كَمَا قَالَ فِي الْمُحْتَضِرِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ [الواقعة: ٨٥] يعني ملائكته.

وكما قال تبارك وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: ٩] فَالْمَلَائِكَةُ نَزَلَتْ بِالذِّكْرِ وَهُوَ الْقُرْآنُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ إِلَيْهِ بِإِقْدَارِ اللَّهِ جل وعلا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَلِلْمَلَكِ لَمَّةٌ فِي الْإِنْسَانِ كَمَا أَنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً «١» ، وَكَذَلِكَ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ «٢» ، كَمَا أَخْبَرَ بذلك الصادق المصدوق ولهذا قال تعالى هاهنا: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ يعني الملكين الذين يَكْتُبَانِ عَمَلَ الْإِنْسَانِ.

عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أَيْ مُتَرَصِّدٌ مَا يَلْفِظُ أَيِ ابْنُ آدَمَ مِنْ قَوْلٍ أَيْ مَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أَيْ إِلَّا وَلَهَا مَنْ يُرَاقِبُهَا مُعْتَدٍ لِذَلِكَ يَكْتُبُهَا لَا يَتْرُكُ كَلِمَةً وَلَا حَرَكَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الِانْفِطَارِ:

١٠- ١٢] وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَكْتُبُ الْمَلَكُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وقَتَادَةَ، أَوْ إِنَّمَا يَكْتُبُ مَا فِيهِ ثَوَابٌ وعقاب كما هو قول ابن عباس رضي الله عنهما، فعلى قولين وظاهر الآية الأول لعموم قوله تبارك وتعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ اللَّيْثِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ عَنْ بلال بن الحارث المزني رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكلمة من رضوان صلى الله عليه وسلم تَعَالَى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يكتب الله عز وجل لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بلغت، يكتب الله تعالى عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ» «٤» قَالَ: فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلَهُ شاهد في الصحيح.


(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢، باب ٢٥.
(٢) أخرجه البخاري في الأحكام باب ٢١، وبدء الخلق باب ١١، والاعتكاف باب ١١، ١٢، وأبو داود في الصوم باب ٧٨، والسنة باب ١٧، والأدب باب ٨١، وابن ماجة في الصيام باب ٦٥، والدارمي في الرقاب باب ٦٦، وأحمد في المسند ٣/ ١٥٦، ٢٨٥، ٣٠٩، ٦/ ٣٣٧.
(٣) المسند ٣/ ٤٦٩.
(٤) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٢٣، والترمذي في الزهد باب ١٢، وابن ماجة في الفتن باب ١٢، ومالك في الكلام باب ٥. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>