للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[آل عمران: ١٤] ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية ونعمة زائلة فقال: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ﴾ وهو المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا﴾ [الشورى: ٢٨].

وقوله تعالى: ﴿أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ﴾ أي يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً﴾ أي يهيج ذلك الزرع فتراه مصفرا بعد ما كان خضرا نضرا، ثم يكون بعد ذلك كله حطاما أي يصير يبسا متحطما، هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة ثم تكتهل ثم تكون عجوزا شوهاء، والإنسان يكون كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضا طريا لين الأعطاف، بهي المنظر، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه وينفد بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخا كبيرا ضعيف القوى، قليل الحركة يعجزه الشيء اليسير كما قال تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: ٥٤].

ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير فقال: ﴿وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ﴾ أي وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا: إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان.

وقوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ﴾ أي هي متاع فان غارّ لمن ركن إليه، فإنه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى دار الآخرة. قال ابن جرير (١): حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا المحاربي، حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرءوا ﴿وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ﴾» (٢) وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة والله أعلم.

وقال الإمام أحمد (٣): حدثنا ابن نمير ووكيع كلاهما عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله : «للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك» انفرد بإخراجه البخاري (٤) في الرقاق من حديث الثوري عن الأعمش به.


(١) تفسير الطبري ١١/ ٦٨٥.
(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٢.
(٣) المسند ١/ ٣٨٧، ٤٤٢.
(٤) كتاب الرقاق باب ٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>