هجرا جميلا وهو الذي لا عتاب معه ثم قال له متهددا لكفار قومه ومتوعدا، وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ﴾ أي دعني والمكذبين المترفين أصحاب الأموال فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم وهم يطالبون من الحقوق بما ليس عند غيرهم ﴿وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً﴾ أي رويدا كما قال تعالى: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ [لقمان: ٢٤]، ولهذا قال هاهنا: ﴿إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً﴾ وهي القيود، قاله ابن عباس وعكرمة وطاوس ومحمد بن كعب وعبد الله بن بريدة وأبو عمران الجوني وأبو مجلز والضحاك وحماد بن أبي سليمان وقتادة والسدي وابن المبارك والثوري وغير واحد.
﴿وَجَحِيماً﴾ وهي السعير المضطرمة ﴿وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ﴾ قال ابن عباس: ينشب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج ﴿وَعَذاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ﴾ أي تزلزل ﴿وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً﴾ أي تصير ككثبان الرمل بعد ما كانت حجارة صماء ثم إنها تنسف نسفا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب حتى تصير الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا أي واديا ولا أمتا أي رابية، ومعناه لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع.
ثم قال تعالى مخاطبا لكفار قريش والمراد سائر الناس: ﴿إِنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ﴾ أي بأعمالكم ﴿كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً﴾ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والثوري ﴿أَخْذاً وَبِيلاً﴾ أي شديدا أي فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر كما قال تعالى: ﴿فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى﴾ [النازعات: ٢٥] وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم رسولكم، لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران، ويروى عن ابن عباس ومجاهد.
وقوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً﴾ يحتمل أن يكون ﴿يَوْماً﴾ معمولا لتتقون كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود فكيف تخافون أيها الناس يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم بالله ولم تصدقوا به؟ ويحتمل أن يكون معمولا لكفرتم فعلى الأول كيف يحصل لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن كفرتم، وعلى الثاني كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة وجحدتموه، وكلاهما معنى حسن، ولكن الأول أولى والله أعلم.
ومعنى قوله ﴿يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً﴾ أي من شدة أهواله وزلازله وبلابله، وذلك حين يقول الله تعالى لآدم ابعث النار فيقول من كم. فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. قال الطبراني: حدثنا يحيى بن أيوب العلاف حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا نافع بن يزيد، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس ﵄ أن رسول الله ﷺ قرأ ﴿يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً﴾ قال:«ذلك يوم القيامة وذلك يوم يقول الله لآدم قم فابعث من ذريتك بعثا إلى النار، قال من كم يا رب؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وينجو واحد» فاشتد ذلك على المسلمين وعرف ذلك