للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١٧ الى ٣٢]

قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١)

ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦)

فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١)

مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)

يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِمَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ مِنْ بَنِي آدَمَ قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قُتِلَ الْإِنْسانُ لُعِنَ الْإِنْسَانُ، وَكَذَا قَالَ أَبُو مَالِكٍ: وَهَذَا لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ الْمُكَذِّبِ لِكَثْرَةِ تَكْذِيبِهِ بِلَا مُسْتَنَدٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِبْعَادِ وعدم العلم، قال ابن جريج ما أَكْفَرَهُ أي مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَيُّ شَيْءٍ جَعَلَهُ كَافِرًا أي ما حمله على التكذيب بالمعاد. وقد حكاه البغوي عن مقاتل والكلبي وقال قتادة مَا أَكْفَرَهُ مَا أَلْعَنَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى لَهُ كَيْفَ خَلَقَهُ مِنَ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ وَأَنَّهُ قادر على إعادته كما بدأه فقال تعالى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ أَيْ قَدَّرَ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ثُمَّ يَسَّرَ عَلَيْهِ خُرُوجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو صَالِحٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وقال مجاهد:

هذه كقوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: ٣] أي بيناه له وأوضحناه وسهلنا عليه عمله، وكذا قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَحُ والله أعلم. وقوله تعالى: ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أَيْ إِنَّهُ بَعْدَ خَلْقِهِ لَهُ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أَيْ جَعَلَهُ ذَا قَبْرٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَبَرْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَلِيَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَقْبَرَهُ اللَّهُ، وَعَضَبْتُ قَرْنَ الثَّوْرِ وَأَعْضَبَهُ اللَّهُ وَبَتَرْتُ ذَنَبَ الْبَعِيرِ وَأَبْتَرَهُ اللَّهُ، وَطَرَدْتُ عَنِّي فُلَانًا وَأَطْرَدَهُ اللَّهُ، أَيْ جَعَلَهُ طَرِيدًا، قال الأعشى: [السريع]

لو أسندت ميتا إلى صدرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر «٢»

وقوله تعالى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أَيْ بَعَثَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَمِنْهُ يُقَالُ الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الرُّومِ: ٢٠] ، وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً [الْبَقَرَةِ: ٢٥٩] وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنْ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَأْكُلُ التُّرَابُ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا عَجْبَ ذَنَبِهِ» قِيلَ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مثل حبة خردل منه تنشؤون» «٣» وهذا الحديث ثابت في الصحيحين مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَلَفْظُهُ «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ مِنْهُ خلق وفيه يركب» «٤» .


(١) تفسير الطبري ١٢/ ٤٤٧، ولفظه: وفي قوله أَكْفَرَهُ وجهان: أحدهما: التعجب من كفره، مع إحسان الله إليه، وأيادنه عنده، والآخر: ما الذي أكفره، أي أيّ شيء أكفره؟.
(٢) البيت في ديوان الأعشى ص ١٨٩، ومقاييس اللغة ٥/ ٤٧، وتفسير البحر المحيط ٨/ ٤٢٠، وتفسير الطبري ١٢/ ٤٤٨.
(٣) أخرجه مسلم في الفتن حديث ١٤٢، في المسند في الجنائز باب ١١٧، وأحمد في المسند ٢/ ٤٢٨، ٣/ ٢٨.
(٤) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٣٩، باب ٣، وأبو داود في السنة باب ٢٢، ومالك في الجنائز حديث ٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>