للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

﴿فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها﴾ يقول: نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم، فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين من قفاه، وكذا قال قتادة وعطية العوفي، وهذا أبلغ في العقوبة والنكال، وهو مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل، ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة، يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم، وهذا كما قال بعضهم في قوله ﴿إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ [يس: ٨]: إن هذا مثل ضربه الله لهم في ضلالهم، ومنعهم عن الهدى. قال مجاهد: من قبل أن نطمس وجوها، يقول: عن صراط الحق فنردها على أدبارها، أي في الضلال. قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا. قال السدي: فنردها على أدبارها، فنمنعها عن الحق، قال: نرجعها كفارا ونردهم قردة، وقال ابن زيد: نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز.

وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية. قال ابن جرير (١): حدثنا أبو كريب حدثنا جابر بن نوح عن عيسى بن المغيرة، قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب، فقال: أسلم كعب زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمر على المدينة، فخرج إليه عمر فقال:

يا كعب، أسلم. فقال: ألستم تقرأون في كتابكم ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ﴾ -إلى- ﴿أَسْفاراً﴾ [الجمعة: ٥] وأنا قد حملت التوراة، قال: فتركه عمر ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، فسمع رجلا من أهلها حزينا وهو يقول: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها﴾ الآية، قال كعب: يا رب أسلمت مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع فأتى أهله في اليمن، ثم جاء بهم مسلمين.

وقد رواه ابن أبي حاتم بلفظ آخر من وجه آخر فقال: حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا عمرو بن واقد عن يونس بن حلبس، عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني، قال: كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله ، قال: فبعثه إليه لينظر أهو هو؟ قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة، فإذا تال يقرأ القرآن يقول ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها﴾ فبادرت الماء فاغتسلت، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس ثم أسلمت.

وقوله ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنّا أَصْحابَ السَّبْتِ﴾ يعني الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد وقد مسخوا قردة وخنازير، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف.

وقوله ﴿وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً﴾ أي إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف ولا يمانع. ثم أخبر تعالى أنه ﴿لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾. أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، ﴿وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ﴾، أي من


(١) تفسير الطبري ٤/ ١٢٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>