ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة، وقال: فأنزل الله ﴿إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ﴾ فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم، وهذا أنسب لسياق الكلام، وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية: فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد ﷺ وأصحابه وعهدهم، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخها قوله: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥].
وقوله: ﴿أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ الآية، هؤلاء قوم آخرون من المستثنين من الأمر بقتالهم وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حصرة صدورهم أي ضيقة صدورهم مبغضين أن يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لا لكم ولا عليكم ﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ﴾ أي من لطفه بكم أن كفهم عنكم ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ أي المسالمة ﴿فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾ أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه ولهذا نهى النبي ﷺ يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره.
وقوله: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ الآية، هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي ﷺ ولأصحابه الإسلام ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار في الباطن تعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم وهم في الباطن مع أولئك، كما قال تعالى: ﴿وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤]، وقال هاهنا ﴿كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها﴾ أي انهمكوا فيها، وقال السدي: الفتنة-هاهنا-الشرك، وحكى ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي ﷺ فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا ولهذا قال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ المهادنة والصلح، ﴿وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾ أي عن القتال، ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ أسراء، ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي أين لقيتموهم، ﴿وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً﴾ أي بينا واضحا.