المنصب قتلناه، وهذا منهم من باب التهكم والاستهزاء، كقول المشركين ﴿يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] وكان من خبر اليهود، عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه، أنه لما بعث الله عيسى بن مريم بالبينات والهدى حسدوه على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويصور من الطين طائرا، ثم ينفخ فيه، فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله ﷿، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه، ومع هذا كذبوه وخالفوه وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم حتى جعل نبي الله عيسى ﵇، لا يساكنهم في بلدة، بل يكثر السياحة هو وأمه ﵉، ثم لم يقنعهم ذلك، حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان، وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب، وكان يقال لأهل ملته اليونان، وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم، ويفسد على الملك رعاياه، فغضب الملك من هذا وكتب إلى نائبه بالمقدس أن يحتاط على هذا المذكور، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه، ويكف أذاه عن الناس، فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى ﵇، وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر، وقيل سبعة عشر نفرا، وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت، فحصروه هنالك. فلما أحس بهم وأنه لا محالة من دخولهم عليه أو خروجه إليهم، قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة؟ فانتدب لذلك شاب منهم فكأنه استصغره عن ذلك، فأعادها ثانية وثالثة، وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب، فقال: أنت هو، وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو، وفتحت روزنة (١) من سقف البيت، وأخذت عيسى ﵇ سنة من النوم، فرفع إلى السماء وهو كذلك، كما قال الله تعالى: ﴿إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: ٥٥]، فلما رفع خرج أولئك النفر، فلما رأى أولئك ذلك الشاب، ظنوا أنه عيسى، فأخذوه في الليل وصلبوه، ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه، وتبجحوا بذلك وسلم لهم طوائف من النصارى، ذلك لجهلهم وقلة عقلهم، ما عدا من كان في البيت مع المسيح، فإنهم شاهدوا رفعه. وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود، أن المصلوب هو المسيح بن مريم، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت، ويقال إنه خاطبها، والله أعلم، وهذا كله من امتحان الله عباده، لما له في ذلك من الحكمة البالغة.
وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبينه، وأظهره في القرآن العظيم، الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات، فقال تعالى وهو أصدق القائلين ورب العالمين، المطلع على السرائر والضمائر، الذي يعلم السر في السموات والأرض،