فقد طلب الله تبارك وتعالى من الداعي إليه أن يسلك طريق الحكمة في دعوته، والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها، فاللين حيث ينفع اللين، والشدة حيث لا يجدي غيرها، فوضع اللين في موضع الشدة مضر كوضع الشدة في موضع اللين، على حد قول الشاعر:
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
ومن الحكمة في الدعوة معرفة نفسيات المدعوين ومنازلهم فدعوة الأمي غير دعوة المتعلم، والمستقيم في الجملة غير المنحرف والمعاند غير خالي الذهن، وسادة القوم غير عامتهم. وهذه القاعدة في الدعوة من أعظم أسباب نجاحها ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أول الأمر سرا ثلاث سنوات. ولذلك كذلك جرب عقلاء الدعاة حتى ولو لم يكونوا مسلمين هذه الطريقة أعني طريقة الحكمة في الدعوة فنجحوا في نشر شرهم، فلقد أثر أن بوذا كان يبعث دعاته إلى نواح متفرقة من بلاد الهند لبث دعوته، وكان لا يبعث الداعية حتى يعقد له اختباراً نفسانياً ليرى مقدار تغلغل الفكرة في نفسه وصلاحيته للقيام بمهمة التبشير بها، ومن أمثلة هذا الإختبار أنه أراد أن يبعث داعية اسمه ((بورنا)) إلى قبيلة معروفة بالشراسة اسمها ((سرونا برانتا)) فقال بوذا للداعية: "إن رجال هذه القبيلة قساة سريعوا الغضب فإذا وجهوا إليك ألفاظا بذيئة خشنة ثم غضبوا عليك وسبوك فماذا كنت فاعلا؟ "فأجاب بورنا: "أقول لاشك أنهم قوم طيبون لينو العريكة لأنهم لم يضربوا بأيديهم ولم يرجموني بالحجارة"فقال: "بوذا فإن ضربوك بأيديهم ورموك بالحجارة فماذا كنت قائلا؟ "قال بورنا أقول: "إنهم طيبون إذا لم يضربوني بالسيوف". قال بوذا:"فإن قاموا عليك بالسيوف فماذا كنت فاعلا؟ " قال: "أقول إنهم طيبون إذا خلصوا روحي من سجن هذا الجسد بلا كبيرة" فقال له بوذا: "أحسنت يابورنا إنك تستطيع أن تسكن في بلاد قبيلة سروانا برانتا فاذهب إليهم وكما تخلصت فخلصهم وكما وصلت إلى الساحل فأوصلهم معك وكما تفريت