شتان أيتها - الأخت العزيزة - ما بين {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} مع مِنْ وبين (ما لكم زوال) بدونها فالمعنى الأساسي وهو نفي زوال المخاطبين واحد في الكلاميين، ولكن هناك فرقا بين النفي مع من والنفي بدونها، فالزوال معها منفي على سبيل العموم والشمول نصا ل يقبل أي احتمال أو تجوز، فليس هناك نوع من أنواع الزوال لم يشمله هذا النفي، على حين أن نفي الزوال بدون من وإن أفاد العموم والشمول ليس نصا، واحتمال التجوز فيه قائم.
والحال التي كان عليها المخاطبون من أنهم لن يبعثوا البتة ولن يتحولوا من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة بأي حال من الأحوال تقتضي ذكر (من) لأن ذكرها يجعل التعبير مصورا ما كانوا عليه تصويرا دقيقا، ويجعل الكلام مطابقا لما تقتضيه حالهم، وفي هذا التصوير الدقيق وفي هذه المطابقة التامة تكون البلاغة.
فـ (من) لا يمكن الاستغناء عنها بلاغة، وإن سماها أهل النحو زائدة.
الشيء الآخر الذي أحرص على أن أنبهك عليه هو بلاغة التعبير في قوله تعالى {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} يطلبون أن يردوا إلى الدنيا وكأنهم نسوا ما كان منهم فيها من تكذيبهم الرسل وإنكارهم البعث، أو كأنهم يريدون أن ينكروا ما كان منهم من ضلال، فيقول الله سبحانه وتعالى لهم:{أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} توبيخا لهم على ما كان منهم في الدار الدنيا وردا مقرعا على ما يطلبون.
فالحال التي كان عليها هؤلاء الذين يطلبون العودة إلى الدنيا ليؤمنوا بالرسل بعد أن كذبوهم تقتضي أن يساق لهم الجواب قويا مؤكدا، لأنهم كانوا بمنزلة المنكرين.
وقد كان الجواب كذلك إذ اشتمل على أسلوبين هما أقوى الأساليب التي تجعل المعاني تستقر في الأذهان فلا تنسى، وتتلقاها الأنفس على شوق فتثبت: