اقتضت الحكمة الإلهية والعناية الربانية، تعاقب الحر والبرد، لما في ذلك من مصالح للبلاد والعباد، وقد ربط السميع العليم ذلك بتصريف الشمس وتقدير مطالعها في منازلها المختلفة منزلة بعد أخرى، وبسبب ذلك التنقل الذي قدره الله تحدث تلك الفصول المتعاقبة فيظهر البرد، وبظهوره تختفي الحرارة، وتبرد الظواهر، فيكون ذلك سبباً لاستكشاف الهواء، فيحصل السحاب والمطر الذي به حياة الأرض ومن عليها، ويعقب نزول المطر إخراج النبات من الأرض رزقا للعباد، كما قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} سورة ق آية ٩_١١.
فمن عنايته بعباده ورحمته بهم إخراج تلك الأقوات والثمار، والحبوب، والفواكه متعاقبة متلاحقة شيئاً بعد شيء، ولم يخلقها سبحانه وتعالى جملة واحدة، فإنها لو خلقت كذلك، على وجه الأرض لفاتت المصالح التي رتبت على تلاحقها.
ومن كمال عنايته ورحمته دخول فصل الحر الذي به يحصل نضج تلك الثمار واستواؤها ولولا تقديره سبحانه وتعالى لذلك وتيسيره لبقيت فجة غير صالحة لأكل ولا ادخار؛ كل ذلك حاصل بتقدير من الحكيم العليم الذي عاقب بها تلك الفصول، التي يقتضي كل فصل منها من الفواكه، والنبات مالا يقتضيه الفصل الآخر، فهذا حار، وهذا بارد، وهذا معتدل، وكل نوع في فصل موافق للمصلحة التي خلق من أجلها؛ كما أن من رحمته أن جعل في دخول أحدهما -الحر والبرد- على الآخر بتدرج، إذ جعل سبحانه بين الحر الشديد، والبرد القارس، برزخا ينتقل فيه الحيوان، على ترتيب وتمهل، لطفا به، ورحمة لضعفه لأنه لو انتقل دفعة واحدة، من الحر الشديد، إلى البرد القارس، لعظم ضرره، وأشتد أذاه؛