ثم ركب السلطان صلاح الدين ثاني يوم الأحد إلى صفد، فقطع منها قضب الكروم والأخشاب، فأما الكروم فليجعلها ستائر للمنجنيقات للتمويه على العدو مثلما تفعل الجيوش المحاربة في العصر الحاضر، وأما الخشب ونشارته فبغرض إيقاد النار في أسوار الحصن بعد نقبها.
وعاد السلطان صلاح الدين في نفس اليوم إلى المخاضة، واستقر رأيه على قتال الحصن بطريقتين، وهما القتال زحفا مع نقب الأسوار في آن واحد.
ونقف قليلاً أمام هذه العبارة "وعلم- أي صلاح الدين- أن أمراً أَوله الاستخارة، وأوسطه الاستشارة، وخاتمته الجسارة، فإن الجامع بينها لا يندم [٤] ".
ففيها رغم إيجازها وصف كامل للحالة النفسية للمقاتلين الذين يستعينون بالله على محاربة عدوهم، ثم يليها استشارة القائد ضباطه لأخذ آرائهم، ثم الشجاعة والجرأة التي تنجم عن تعبئة روحية عالية، تكون النتيجة الظفر على الأعداء بإذن الله.
ثم يلي ذلك وصف المعركة، ومنه:"وفي الحال أَطافت بالحصن المقاتلة من جميع أقطاره، ولبوا تلبية الحجيج، وكل يرمي جمرة سهم، وعبرت الآجال المسماة على قناطر القسي المحنية، وقدحت زنودها البيض شرار جمر المنية، فصارت الأبرجة كأنها مستلئمة بسلاحها، أو كأنها لكثرة ريش السهام طائرة بجناحها، أو كأنها صدور قد أظهرت حسك [٥] الضغائن، أَو كأن أبرجتها لازدحام السهام بها كتائن [٦] ، فنجدد عليهم حصر بان في البيوت بعد الحصر في المدينة، وضاق مجال اليد عن أنجاد خواطرها اللعينة المبينة، وفي الحال هجم الأولياء على الحوش، وحازوا الخندق وأطلقوا النيران فتبسطت خطواتها، وتسلطت سطواتها، وأحاطت بالأعداء خطياتها"[٧] .