ثم يصف القاضي الفاضل شعور السلطان صلاح الدين عند ورود التقليد إليه بولاية آمد. فقد فرح به وتناوله وكأنه كتاب أنزل من السماء أو نور يمشي به بين الناس، وسار من توه لفتح آمد (بلاد بكر الحالية) ، فوصلها في يوم الأربعاء١٧ ذي الحجة سنة ٥٧٨هـ= أبريل سنة ١١٨٣ م.
ونرى القاضي الفاضل يسجل ما حدث قبيل الحرب في أمدا وينتقل بعدها لوصف المعركة نفسها، وما انتهت إليه.
فقد أمر السلطان صلاح الدين أن تكتب الرقاع للآمديين يعدهم بالخير والإحسان إن أطاعوه، ويتهددهم إن قاتلوه، وانتظر ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع، أخذ في ردم أسوارها، إذ أرسل النقابين لنقبها، فما زالوا بها حتى نقبوها من عدة نواح، فضلاً عن رميها بالمجانيق. وهنا يتفنن القاضي الفاضل في تشخيص المعركة في أسلوب تشعر من خلاله بمدى ضراوتها، فهي كجهنم وقودها الناس والحجارة، وقد أزالت معالم المدينة، مثلما يزال جلد الشاة، والمنجنيقات تسقي الموت لأبرجتها ويعجز أهلها عن الذود عنها، والنقابون ينقبونها فيهتكون حجابها، فهو يصور في بلاغة، قوة البطش بها وبمن بداخلها.
ثم تسلم السلطان صلاح الدين آمد بأموالها وذخائرها، ورفع أعلامه على أسوارها يوم ١٤ محرم ٥٧٩ هـ= ٦ مايو ١١٨٣ م، فقد فضل الآمديون التسليم على المقاومة.
ويفتخر القاضي الفاضل بهذا الفتح المبين، وما تم بعد إحراز النصر المؤزر، فيقول: وهذه مدينة آمد، فهي مدينة ذكرها بين العالم متعالم، وطالما صادم جانبها من تقادم، فرجع عنها مفدوغا أنفه، وإن كان محلاً، وقرعها مزيداً بهجة، وإن استصحب حفلاً، ورأى حجرها فقد رأته لا يقال له حجر وسوادها فحسب أنه لا يتوشحه فجر، وحمية أنف أنفها فاعتقد أنه لا يستجيب لزجر، من ملوك كلهم طوى صدره على العليل إلى موردها، ووقف بها وقفة المحب المائد فلم يفز بما أمل من جواب معهدها [١٦] .