وما قيل في التعقيب على الاستدلال الذي قال به كل من أبي حنيفة وإسحاق يقال هنا: أي أن التحديد الوارد في هذا الحديث لم يكن مقصوداً وإنما حدث اتفاقا وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- حسبما جاء في هذه الرواية- أن وصل إلى مكة في اليوم التاسع عشر من رمضان وظل في مكة بقية الشهر ليرتب أمورها بعد الفتح، من تعيين حاكم لها وتسليم أصحاب وظائف الكعبة وظائفهم وغير ذلك مما يحتاج إليه في مثل هذه الحالة وقد استغرق ذلك زمناً، منه هذه المدة الباقية من رمضان.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، لو كان صلى الله عليه وسلم دخل مكة قبل هذا التاريخ، أي في اليوم العاشر مثلا من رمضان؟ فهل كان سيستمر مفطراً إلى نهاية الشهر أم كان سيقطع الرخصة ويصوم بعد انتهاء مدة العشرة أيام أو الأحد عشر؟.
وأرى- والله أعلم- أن هذا الحديث يستدل به على أن الإنسان إذا نزل بمكان ما لأمر ما وفي نيته العزم على استمرار السفر ولا يدرى متى تنتهي مهمته من هذا المكان حتى يواصل سفره- فإن مثل هذا يستمر على فطره ولو قضى الشهر كله في هذا المكان.
وموضع الشاهد من الحديث على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في نيته فتح مكة والعودة إلى المدينة ولم يكن في نيته العزم على الإقامة مدة محددة بل كانت إقامته مرهونة باستقرار الأحوال في مكة فمتى استقرت الأحوال وعادت الأمور إلى طبيعتها غادر مكة إلى المدينة أو إلى مكان آخر.
ويقوي ذلك أننا لم نجد في هذا الحديث ولا في أي حديث آخر من الأحاديث الواردة التي اطلعنا عليها في هذا الموضوع قرينة يفهم منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم صرح أو ألمح إلى عزمه على الإقامة مدة محددة في مكة في هذه الغزوة، بل بالعكس كانت هناك قرائن يستفاد منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينوي الخروج من مكة- بعد استقرار الأحوال فيها- في أقرب فرصة.