ومن نقدات الخليفة عمر - رضي الله عنه - الأدبية: ما روي أنه قال ليلة لابن عباس: "أنشدني لشاعر الشعراء: قال: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: ابن أبي سلمة، قال: وبم صار كذلك؟ قال: لأنه لا يتبع حُوشيّ [٢٢] الكلام، ولا يعاظل [٢٣] في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون فيه، أليس هو الذي يقول:
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غايةَ
من المجد من يسبق إليها يسوَّد
سبقت إليها كل طلق مبرَّز
سبوق إلى الغايات غير مزنّد
ولو كان حمدٌ يخلد الناس لم يمت
ولكن حمد الناس ليس بمخْلِد" [٢٤]
والناظر في هذا النقد الفني الذي حكم به عمر رضي الله عنه على زهير بن أبي سلمى من خلال تذوقه لشعره يجد أن أساس حكمه قائم على الأساس نفسه الذي توخاه الرسول الكريم في نقده للشعر، حينما دعا إلى ترك التشادق، والبعد عن التكلف، وإلى السلاسة في التعبير وإلى الاتزام الصدق في القول، وتلك هي الأمور التي انتهجها زهير في شعره، وعلى أساسها مدحه عمر، إلا أننا نلمح في نقد عمر شيئاً جديدا لم يعهد من قبل عمر، وهو اتباع الحكم النقدي بدواعيه وأسبابه، فعمر لم يحكم على زهير بأنه أشعر الشعراء فقط، بل أتبع هذا الحكم - كما قلت - بأسبابه وعلله، وهي علل وأسباب تصبح أساسا للأحكام النقدية، وقاعدة ومعيارا يقوّم الشعر والأدب به.
وهذا الحكم النقدي وما تبعه من أسباب وعلل، أقيم على جوانب ثلاثة: جانب الألفاظ، وجانب المعاني، وجانب المنهج الذي التزم به الشاعر؛ فمن ناحية الألفاظ وصف عمر رضي الله عنه ألفاظ زهير بالسماحة والألفة وأسلوبه بالوضوح والجمال والسلاسة، والخلو من التعقيد والتركيب والتوعر.
ومن ناحية المعاني فقد وصف عمر معانيه بالصحة والصدق.
ومن ناحية منهج الشاعر فقد وصف عمر زهيرا بالتزام الحق والصدق، والاعتدال والقصد، والتباعد من الإفراط والعلو.