إن تجسيد القيم في أفعال وخطط يعطيها معناها الإمكاني الحق إذ يتعرف الناس على هذه المثل في واقع حياتي حي, فلتلتحم الفكرة العلوية بصورتها الأرضية, وتجري الأفكار والتعاليم الإلهية ملموسة دفاقة في الأرض جريان السيل لا ظن ولا توهم ولا مراء. ومن ثم ينتخب لها أولئك الذين تبدو العقيدة فيهم رائعة الجلاء والنقاء كما ينم البلور ذو الصفاء عما حوى, حتى إنك لا تميز بين الوعاء وما وعى. هؤلاء الصفوة يتولى الله سبحانه اختيارهم وهو العليم الخبير، ويجعل فيهم بقدرته ومشيئته الاستعداد للنبوة ليكونوا حقائق العقيدة المتحركة على الأرض. هذه النخبة يمكن أن يقال فيها: "أنها ليست وليدة بيئتها ولا من صنع مجتمعها, أنها جنس منفصل وجد كالغريب في بقعه نائية. وأنها لتحس بغربتها قبل أن يأتيها خبر السماء وتتجافى عن ضلال الناس كأن عالمها غير عالمهم وكأن قوة علوية تجتذبها إليها -تلمس آثارها وتشعر بتأثيرها فيما يجري لها ولكن تبقى محجوبة عن السر حتى يكشف الحجاب ويأتيها الوحي - فيتصل حبلها المقطوع بالعالم الذي كانت تستشعر وجوده ولا تدري كنهه, وتجد نفسها بعد ضلال {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى, وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى}[٦] وتعرف حقيقتها ومهمتها فيزول عنها الإحساس بالغربة, وتستشعر نفسها وكيانها بقوة وتمكن, وتأخذ في التلقي من الله تلقيا تلقائيا آنيا فلا تتردد ولا تتحرج ولا تجادل ولا تماري, وإنما تستجيب للأمر وتتمثل للأمر للكلمة الإلهية آنيا كما ينبثق النور آنيا لا يدري أول شعاعه من أخره لسرعته تلك الاستجابة التي تلمس حقيقتها في إبراهيم. . {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[٧] ولم لا يسلم للحظته وقد بحث طويلا عن ربه في ملكوت السموات والأرض فلما اجتباه ربه وكشف حيرته وهدى ضلاله لم يبق إلا الامتثال والتلبية. عندها يعلم المصطفى المختار أسباب عزوفه عن قومه ونفوره من