للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكأن بعض هذه الحوادث كانت تقول له قبل مبعثه: لست وحدك, ولا لنفسك وإنما أنت للذي يعدك ويرعاك لتكون امرأ غير الآخرين, وإن في غدك لأمرا فترقبه, فتبعث فيه تساؤلا وتطلعا وترقبا, وربما كان من شأنها أن حببت إليه العزلة والتحنث في حراء. واستقبل أولاها وهو طفل مسترضع في بني سعد يوم جاءه الملكان فشقا صدره واستخرجا قلبه وغسلاه بالثلج والبرد. حادثة فوق إمكان العقل الإنساني ولكنها على الله هينة لذلك لم يكد أبواه في الرضاع يستمعان خبرها من فم الطفل البريء الصادق حتى طارا به إلى أمه في مكة فزعا أن يكون بدأ به عرض مرضي إذ لم يستطيعا أن يصدقا طفلا في أمر لم يألفاه. ومن أدراهما أن من بين أيديهما نبي منتظر؟ ولكن الطفل لم ينس الحادثة, ومرت في شعوره خفيفة الوقع وهو صغير, فلما شب على الأيام تألقت في ذاكرته وإحساسه, ولا شك أنها شغلت تفكيره حتى مبعثه, فلما جاءه الملك ليلة الإسراء, وشق صدره للمرة الثانية وغسل قلبه بماء زمزم استعدادا للسفر به إلى الملأ الأعلى والمثول بين يدي الله تيقن أن حادثة الطفولة كانت إحدى براهين النبوة ليتعرفها في نفسه, وليثبت يوم يزعزع كيانا في غار حراء والملك يفته ويقول {اقْرَأْ} [١٩] ويوم يقول لخديجة رضي الله عنها: "مالي أي شيء عرض لي؟ لقد خشيت على نفسي" [٢٠] في هذه الساعات من الزعزعة الحيرة كان تذكر هذه الحادثة وما أشبهها أنفع شئ في الثبات واليقين, وتستبين حقائق الحاضر بدلائل من الماضي. وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مغزاها الكامل إذ سئل خبرنا عن نفسك يا رسول الله [٢١] فجعلها عليه الصلاة والسلام إحدى أربع علامات للنبوة عرفها في نفسه. ومن يدري؟ ربما ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال حياته يستشعر العذوبة والراحة النفسية التي أحس بها عندما استخرج الملكان من قلبه علقة سوداء وغسلاه بالثلج والبرد: إننا لنسمعه يقول في دعاء له "اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج,