للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لن تتعب أنفسنا بالتنويه بنسبة العريق. وهو وإن كان من أسباب الرضا. لكنه لم يكن السبب الأساسي فلو كان ذلك، فإن أبا طالب كان بين ظهرانيهم، وهو أسن منه، وسيد عشيرته يوم ذاك، ولكن السبب في شخصه لا في نسبه - مع إحترامنا البالغ لنسبه الزكي صلى الله عليه وسلم. لقد قالوا: "هذا الأمين"فأشاروا إليه باللقب، ولم يشيروا إليه بالنسب.

كانت الأمانة سر الرضا، وهي صفة أوضحنا مدلولها ومضمونها، وتفرد رسول الله بها. وكانت قريش تبتغي حكماً، مجرداً من الهوى، قادراً على أن يلقي عواطفه العصبية جانباً، وأن يعلوا على خصومتهم، فيقضي بينهم ولا يدخل فيها. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قرشياً هاشمياً من البيت الذي يلي شؤون الكعبة، وما هو بالغريب عن قضايا قومه، وما يحزبهم، ومع ذلك رأت فيه مختلف البطون من قريش ضالتها المنشودة، ومفتاح الفرج في أزمتها العصبية، فهذا الأمين في اعتبارها إذن فوق العصبية المحلية؛ رجل يستطيع كل قرشي أن يجد عنده الإنصاف والعدل والنزاهة. لا يخشى منه تحيز، ولا ميل عن الحق إلى القريب، أو صديق، أو نصير. حقاً قد احتكمت قريش إلى رجل منها، ولكنه في هذا التقدير فوقها كلها؛ رجل لا يعبد ما تعبد، وليس من دينها في شيء هو عندها مثال العدالة والاستقامة والصدق.

وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في نفوس القوم، وما هم فيه من خلاف، وحضره الحل المرضي توفيقاً من الله وعوناً. أمر بثوب، فبسط ووضع الركن فيه، وجعل ممثلي البطون على أطرافه، وأمرهم أن يرفع كل من ناحية، حتى إذا حاذوا مكانه، رفعه بيديه الطاهرتين، ووضعه في مكانه وبنا فوقه.

لقد كان رافع الركن إلى موضعه ابن إبراهيم عليه السلام، الذي دعا ربه مخلصاً {ربنا وأبعث فيهم رسولاً منهم} [٤٨] فوضعه محمد صلى الله عليه وسلم في المكان الذي وضعه فيه أبوه من قبل أول مرة عندما رفع البيت.