فكيف أدى النبي ما عهد به إليه، وأنفذه على وجهه، فتوفاه الله وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة فجعله في الخالدين؟
إن الإلمام بذلك يعين سبلاً وحدها تسلك، وطرقاً وحدها تتبع في إحياء حضارة الإنسان بالعلم والإيمان، وما من مؤمن يطلع على مواقف الرسول الخالدة صلى الله عليه وسلم في القرآن والسيرة إلا يتقن أن استيعاب روح هذه المواقف وتمثلها هو الخطة الوحيدة في تكوين مجتمع إسلامي صحيح سليم.
إنه وجب الاقتداء إذ ثبت الاصطفاء وإذا كان العسير علينا أن نحيط بتلك المواقف في هذه العجالة فلإشارة إلى بعضها كافية:
أ - الاقتراب:
وأول هذه المواقف وأعظمها خطراً هو انفصال الرسول صلى الله عليه وسلم نفسياً وروحياً عن عصر الجاهلية والاتجاه بالقلب والنفس إلى العالم الأعلى، إلى الله، وهذا المسلك مبدأ الانطلاق في تكوين الأمة وبزوغ حضارة الإسلام وقد سمى الله تعالى هذه الطريقة بالاقتراب. قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}[٥٠] ويغدوا النبي بانفصاله عن الوقع الجاهلي مركز إشعاع متجدد ويجتذب إليه عناصر مجبولة على الخير نافرة من أذى الجاهلية فتسبح في فلك النبي وتخضع لجاذبيته وتستلم منه القيم، والمثل فتتفجر إمكانياتها بتأثيره في طريق الخير، وتنصرف قلوبها إلى الله تريد وجهه. إنهم الرجال المعرفون بالصحابة الذين صنعوا بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تاريخ الدعوة الأول، وقد صدر الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بالتزام هذه الفئة التي هي نواة المجتمع الإسلامي:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}[٥١] .