والقلب بعبادة الله تعالى والاستعانة به: معتصم مستمسك قد لجأ إلى ركن وثيق، واعتصم بالدليل الهادي والبرهان المتين، فلا يزال في زيادة من العلم والإيمان، أو سلامة من الجهل والضلال، سالماً من جهل أهل التصوف وعباد الخلق، وضلال المتكلمين أهل الشك والحيرة والخذلان. والعبد لما كان مخلوقاً مربوباً، عاد في علمه وعمله إلى خالقه وباريه فبه يهتدي وله يعمل، وإليه يصير، فلا غنى له عنه، وانصرافه إلى غيره هو عين هلاكه وفساده، وبالله له عن كل شيء عوض، وليس لكل شيء عن الله عوض وليس للعبد صلاح ولا فلاح إلا بمعرفة ربه وعبادته، فإذا حصل له ذلك فهو الغاية المرادة له والتي خلق من أجلها، فما سوى ذلك إما فضل نافع أو فضول غير نافعة أو فضول ضارة، ولهذا صارت دعوة الرسل لأممهم إلى الإيمان بالله وعبادته، فكل رسول يبدأ دعوته بذلك كما يعلم من تتبع دعوات الرسل في القرآن، بخلاف الطرق الكلامية الفلسفية فإنهم يبدأون بنفوسهم فيجعلونها هي الأصل الذي يفرعون عليه، فيتكلمون في إدراكاتهم للعلم، أنه مرة يكون بالحس ومرة بالعقل، أو بهما.
ويجعلون العلوم الحسية والبديهية هي الأصل الذي لا يحصل علم إلا بها على حد زعمهم، مثل الأمور الطبيعية والحسابية، والأخلاق، وبنوا سائر العلوم على هذه الأمور الثلاثة، ولهذا كانوا يمثلون بها في أصول العلم والكلام كقولهم: إن الواحد نصف الاثنين، والعشرة أكثر من الخمسة، والجسم لا يكون في مكانين، والضدان لا يجتمعان كالسواد والبياض، هذا في الحسابية والطبيعية، وأما الأخلاق فمثل استحسان العلم، والعدل والعفة والشجاعة.