إن نظرة واحدة إلى هذه السيول البشرية، متدفقة عليها من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، لتقدم الجواب الشافي على هذا التساؤل.. إذ تؤكد أن هذا الحرم المرموق لم يزل هو صاحب السلطان النافذ في قلوب مئات الملايين من أتباع سيد المرسلين..؟
ولعل أروع ما احتفظت به مدينة المصطفى من تراث الماضي العظيم هو تلك الطمأنينة التي تغمر بظلها الوارف على كل شيء، حتى النبات والطير والحيوان فضلا عن الإنسان ...
إنك هنا في متحف بشري عجيب، تطل منه على مواكب البشر، في مختلف ألوانهم ولغاتهم وأزيائهم.. وأكثر ما تشهد ذلك في المسجد النبوي، حيث ينصب السيل البشري الوافد من أنحاء الدنيا، كيفما اتجهت هناك تجد نفسك مع أخ لك لم تلده أمك، يعجز لسانه عن ترجمة شعوره, فتقوم يده مقام لسانه يصافحك.. فتحس أنه يضع قلبه على راحته ليقدمه إليك حبا وشوقا ورحمة..
وتغادر المسجد النبوي إلى الشارع، ولكن سرعان ما تشعر أنه لم يغادرك لأن روحه مرفوفة على أنحاء البلد الطاهر.. حتى الباعة الذين عرفتهم في كل بلد لا يمنحونك من لطفهم إلا بمقدار ما تنفحهم من نقودك، حتى هؤلاء عليهم هنا من جوار الحرم طابع مميز، أكثر ما يطلعك في تلك الثقة الغريبة التي يقابلونك بها في كل حانوت، ولا أكاد أستثني.. إنك لتشتري من أحدهم السلعة فتقدم إليه ورقة النقد ليرد إليك التتمة، فإذا لم يجد لديه ما يفي، أعاد إليك ورقتك معتذرا وهو يقول:"تعطيني فيما بعد"فكأنك من أحب معارفه إليه، وأنت الذي لم تره قط، ولم يلمح لك وجهاً من قبل! .
وتمضي هنا وهناك متفرجا مستكشفا، فلا تشعر أنك فارقت هذا الوحي أو فارقك.. أنّى سِرت تسمع تحية الإسلام، وأنّى اتجهت أحسست بنفحات السلام، رقة في الحديث، ورفقا في المعاملة، وأمنا في كل شيء..