قال ابن حزم:"لا خلاف في أن الإسراء كان بعد النبوة بمدة [٢٩٤] وأوّل بعضهم قوله: "قبل أن يوحى إليه"، أي في شأن الصلوات أو الإسراء ونحو ذلك، والتزم الشيخ شهاب الدين أبو شامة وغيره، بسبب هذه الرواية [٢٩٥] أن الإسراء كان مرتين، مرة قبل النبوة بروحه، ومرة بعدها بالجسد، وهذا ضعيف جدا، إذ كيف يجوز أن يحفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -[٢٩٦] هذه القصة بطولها، ويعرف جبريل، وفرض الصلوات عليه، وعلى أمته، ثم لما جاءه - صلى الله عليه وسلم - جبريل بالوحي أوّل النبوة يقول لخديجة - رضي الله عنها- "لقد خشيت على نفسي"، إلى غير ذلك مما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أوّل النبوة، من سؤال ورقة، وأصحاب خديجة - رضي الله عنها - (أمر جبريل بكشف قناعها)[٢٩٧] . فهذا التجويز الذي قاله أبو شامة، يطرّق للمحدثين الطعن في النبوة، ولكن لحديث شريك بن أبي نمر مخرج حسن ظاهر، لم أر أحدا تنبه له، وهو في نفس الحديث عند البخاري من طريقه، قال: سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول عن ليلة أُسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أوسطهم:"أيهم هو"[٢٩٨] ؟ فقال أوسطهم:"هو خيرهم ". فقال آخرهم:"خذوا خيرهم"، فكانت [٢٩٩] تلك الليلة، فلم يروه حتى أتوه ليلة أخرى [٣٠٠] ، فيما يرى قلبه، وكانت تنام عيناه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمزم ". ثم ذكر القصة بطولها، في شق قلبه [٣٠١] ، ثم الإسراء به [٣٠٢] .
فيكون الذي وقع قبل النبوة تلك الليلة الأولى فقط [٣٠٣] ثم إنما جاؤوا في الليلة الأخرى بعد [٣٠٤] ، وليس فيها ما يشعر بأنها كانت قبل أن يوحى إليه، فاندفع حينئذ ما اعترض به ابن حزم، وما ترتب على ذلك من الالتزام الذي التزمه أبو شامة وغيره.