وبلغ من أمر اللحن - فيما بعد - أن تسرب إلى ألسنة أكثر العلماء، فتساهلوا في أمره، قال ابن فارس:"فأما الآن فقد تجوَّزوا، حتَّى إنَّ المحدث يحدث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبِّها قالا: ما ندري ما الإعراب، وإنَّما نحن محدّثون وفقهاء".
وصار من لا يلحن في زمن الأصمعي خارجاً عن المألوف، قالت الأصمعي:"أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبي، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وابن القرية، والحجاج أفصحهم".
وقد كان النَّاس في صدر الإِسلام يجتنبون اللحن فيما يقولونه أو يقرأونه أو يكتبونه اجتنابهم بعض الذنوب، وكان دافعهم لاجتناب اللحن شعورهم بوراثتهم لغتهم معربة، وهي لغة القرآن والدين.
وكان بعض السَّلف يقول:"ربما دعوت فلحنت فأخاف ألا يستجاب لي ".
وقد يحدث بعضهم بحديث فيلحن فيه، فيقول:"استغفر الله"يعني أنَّه عدَّ اللحن ذنباً، فيقال له فيه فيقول:"من أخطأ فيها فقد كذب على العرب، ومن كذب فقد عمل سوءاً".
وروي عن عمر بن الخطاب أنَّه جعل اللحن من الافتراء.
وكان عمر بن الخطاب يضرب أولاده على اللحن ولا يضربهم على الخطأ في غير اللغة.
وأثر مثل هذا عن ابنه عبد الله - رضي الله عنهما -.
وبعد هذا الفيض من الرِّوايات فإنَّه لا سبيل إلى إنكار ظهور اللحن في المدينة منذ الصدر الأول، واستفحال أمره فيما بعد في سائر الأمصار، لاختلاط العرب بغيرهم.
ومن الطبيعي أن يصحب ذلك إحساس بالحاجة إلى ضبط قواعد اللّغة الفصحى، ومن المؤكد أنَّ ذلك الإحساس نشأ منذ الصَّدر الأول في المدينة في عهد الخلفاء الراشدين، وربما كان ذلك منذ عهد النَّبي - صلى الله عليه وسلم.