وهؤلاء الأئمة لم يكفّوا عن الخوض فيما خاض فيه من سواهم لعجز منهم عن ذلك أو لضعف وعدم قدرة بل الأمر كما قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: " ... فإنَّ السابقين عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفّوا، وكانوا هم أقوى على البحث ولم يبحثوا". ومن كان على نهج هؤلاء فهو في طريق آمنة وسبيل سالمة، قال محمد بن سيرين - رحمه الله -: "كانوا يقولون: إذا كان الرجل على الأثر فهو على الطريق".
ولما كان الأمر بهذه المثابة وعلى هذا القدر من الأهمية أحببت أن أقدّم دراسة لأحد الآثار المرويّة عن السلف الصالح - رحمهم الله - في تقرير التوحيد وردّ البدع والأهواء؛ ليكون - إن شاء الله - أنموذجاً للتدليل على عِظم فائدة العناية بآثار السلف وعظم ما يحصله من عُنيَ بذلك من فوائد وثمار ومنافع.
ولهذا نشطت في إعداد هذه الدراسة للأثر المشهور عن الإمام مالك - رحمه الله - عند ما جاءه رجل وقال له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، فتأثّر مالك – رحمه الله - من هذه المسألة الشنيعة وعلاه الرحضاء [أي العَرَق] ، وقال في إجابته لهذا السائل:"الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، وأمر بالسائل أن يُخرج من مجلسه، وهو أثر عظيمُ النفع جليلُ الفائدة.
ويمكن أن أحدِّد أهمّ الدوافع التي شجّعت لتقديم هذه الدراسة لهذا الأثر خاصة في النقاط التالية:
أوّلاً: أنَّ هذا الأثر قد تلقّاه الناس بالقبول، فليس في أهل السنة والجماعة من ينكره، كما يذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، بل إنَّ أهل العلم قد ائتمّو به واستجودوه واستحسنوه.
ثانياً: أنَّه من أنبل جواب وقع في هذه المسألة وأشدّه استيعاباً؛ لأَنَّ فيه نبذ التكييف وإثبات الاستواء المعلوم في اللغة على وجه يليق بالله عز وجل.