ولعل الراجح في المسألة أن الأمر يختلف باختلاف المَصْلَحَةِ.
١- فإن كان الخصم في مقام دعوة الناس إلى قوله وإلزام الناس بها أمكن أن يقال له: لا يجب على أحد أن يجيب داعياً إلا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلى ذلك، ولو قدر أن ذلك المعنى حق.
وهذه الطريق تكون أصلح إذا لَبَّسَ مُلَبِّسٌ منهم على ولاة الأمور، وأدخلوه في بدعتهم، كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك، فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال: إئتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة.
وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء، وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل، وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم أن العقل أدَّاه إلى علم ضروري ينازعه فيه الآخر، فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة.
وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلى المحنة، وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة على قولهم.
فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الأنعام ١٠٢] ، وقوله:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}[الأنبياء ٢] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"تجيء البقرة وآل عمران"، وأمثال ذلك من الأحاديث.
أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل على مطلوبهم.
ولما قالوا: ما تقول في القرآن أهو الله أو غير الله؟
عارضهم بالعلم فقال: ما تقولون في العلم أهو الله أو غير الله؟
ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث -وكان من أحذقهم بالكلام- ألزمه التجسيم، وأنه إذا أثبت لله كلاماً غير مخلوق لزم أن يكون جسماً.