للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد أطال أبو إسحاق الشاطبي في تتبع آيات سورة البقرة، وتنزيلها على القاعدة المذكورة، ثم أورد بعض آيات سورة الأنعام، وبيّن كيف تنطبق على القاعدة.

ثم قال: "وقد يغلب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات الأحوال، فيرد التخويف ويتسع مجاله، لكنه لا يخلو من الترجية كما في سورة الأنعام، فإنها جاءت مقررة للحق، ومنكرة على من كفر بالله، واخترع من تلقاء نفسه ما لا سلطان له عليه، وصد عن سبيله، وأنكر ما لا ينكر، ولدَّ فيه وخاصم، وهذا المعنى يقتضي تأكيد التخويف، وإطالة التأنيب والتعنيف، فكثرت مقدماته ولواحقه، ولم يخل مع ذلك من طرف الترجية؛ لأنهم بذلك مدعوون إلى الحق، وقد تقدم الدعاء وإنما هو مزيد تكرار، إعذارًا وإنذارًا، ومواطن الاغترار يطلب فيها التخويف أكثر من طلب الترجية؛ لأن درء المفاسد آكد.

وترد الترجية أيضا ويتسع مجالها، وذلك في مواطن القنوط ومظنته، كما في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (١) الآية فإن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا ألنا لما عملنا كفارة، فنزلت.

فهذا موطن خوف يخاف منه القنوط، فجيء فيه بالترجية غالبة، ومثل ذلك الآية الأخرى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (٢) وانظر في سببها في الترمذي، والنسائي، وغيرهما.

ولما كان جانب الإخلال من العباد أغلب كان جانب التخويف أغلب، وذلك في مظانه الخاصة، لا على الإطلاق؛ فإنه إذا لم يكن هنالك مظنَّة هذا، ولا هذا أتى الأمر معتدلاً".


(١) سورة الزمر، الآية: ٥٣.
(٢) سورة هود، الآية: ١١٤.