ومنها: أن يكون على بالٍ من الناظر والمفسر، والمتكلِّم عليه أن ما يقوله تقصيد منه للمتكلم، والقرآن كلام الله، فهو يقول بلسان بيانه: هذا مراد الله من هذا الكلام، فليتثبت أن يسأله الله تعالى: من أين قلت عني هذا؟ فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد، وإلا فمجرّد الاحتمال يكفي بأن يقول: يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا، بناء أيضا على صحة تلك الاحتمالات في صلب العلم، وإلاَّ فالاحتمالات التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة، فعلى كل تقدير لا بد في كل قول يجزم به أو يحمّل من شاهد يشهد لأصله، وإلاَّ كان باطلاً ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم، والله أعلم".
قلت: ليت شعري أين يضع نفسه من يستقل بتفسير القرآن في زماننا هذا؟!. إنه لا يمكن أن يضع نفسه مع الطبقة الأولى في العلم بأدوات التفسير، فلم يبق إلا الطبقة الثانية، والثالثة، وكلاهما ممنوعة من القول في القرآن وتفسيره، كما وضَّح ذلك أبو إسحاق، رحمه الله تعالى.
المبحث التاسع: مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي في حكم ترجمة القرآن الكريم
قدم أبو إسحاق الشاطبي لهذه المسألة بمقدمة بنى عليها حكم ترجمة القرآن، فقال في هذه المقدمة: "للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران: أحدهما: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة ... وهي الدلالة الأصليّة. والثاني: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيّدة دالة على معان خادمة، وهي الدلالة التابعة.
فالجهة الأولى: هي التي يشترك فيها جميع الألسنة، وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين، ولا تختص بأمة دون أخرى؛ فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلاً كالقيام، ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام، تأتىله ما أراد من غير كلفة، ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأوّلين - ممن ليسوا من أهل اللغة العربية - وحكاية كلامهم، ويتأتى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها، وهذا لا إشكال فيه.