للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومنه حديثه - رضي الله عنه - وقد قيل له: خرج الدجال، فقال: "كَذْبة كذبها الصّواغون". فنطق بالصيغة الواوية، في الحديثين، وقد يكون سمعها من رسول الله بالياء، لأنه قرشي، ولكنه نطقها بالواو علي سليقته اليمنية.

فإن كان أبو هريرة قد نطق بالصيغة اليائية على أنها لغة له، كما ذكر أبو الزناد، فلعلها في هذه الكلمة فقط، أفادتها قبيلته من إحدى القبائل الحجازية المجاورة التي تؤثر الياء في كلامها. وقد تجتمع اللغتان في قبيلة واحدة، كما حكى الخليل عن طيئ - وهي من القبائل اليمنية - أنها كانت تقول: "محيته محيًا ومحوًا".

بل وعزي إلى أهل الحجاز أنهم كانوا يقولون: قنوان وقصوى وقلوت، فيما يقول التميميون: قنيان وقصيا وقليت.

وحكى ابن السكيت عن أهل الحجاز أيضًا أنهم يعاقبون بين الواو والياء، فيقولون: الصوّاغ والصيّاغ، والمياثر والمواثر، والمواثق والمياثق.

وتابع ابن سيده ابن السكيت في إمكان المعاقبة في القبيلة الواحدة، حيث قال: "وأذكر الآن شيئًا من المعاقبة، وأُري كيف تدخل الياء على الواو، والواو على الياء من غير علة عند القبيلة الواحدة من العرب" ثم نقل عن ابن السكيت ما حكاه عن أهل الحجاز.

فاللغات - كما يقال - ظواهر اجتماعية لا تعرف الاطراد، ولا يمكن أن ينتظمها أو يحكمها قانون عام شامل أو جامع مانع، وإنما هي - دائمًا - تأخذ وتعطي بفعل تأثر القبائل بعضها ببعض، كما قال ابن جني في حديثه عن الفصيح يجتمع في كلامه لغتان فصاعدًا: "وقد يجوز أن تكون لغته في الأصل إحداهما، ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى، وطال بها عهده، وكثر استعماله لها، فلحقت - لطول استعمالها - بلغته الأولى. وإن كانت إحدى اللفظتين أكثر في كلامه من صاحبتها، فأخلق الحالين به في ذلك أن تكون القليلة في الاستعمال هي المفادة، والكثيرة هي الأولى الأصلية".