- في هذه الآية الكريمة ينهى الله - عزّ وجل- أهل الكتاب من النصارى خاصة عن الغلوّ والإطراء ومجاوزة الحدّ، وهذا كثير فيهم حيث رفعوا عيسى عليه السلام فوق المنزلة التي أعطاه الله إيّاها، فنقلوه من حيّز النبوة إلى الألوهية، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه فادّعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه وذلك قوله عزّ وجلّ:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} .. ونهاهم أيضاً ألاّ يفتروا عليه ويجعلوا له صاحبة وولداً وهو قوله:{وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ} ، ولهذا قال بعده {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ} .أي إنّما هو عبد من عباد الله، وخلق من خلقه قال له كن فكان، رسول من رسله وكلمته ألقاها إلى مريم أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربّه عزّ وجلّ، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم والجميع مخلوق لله عزّ وجلّ فهو مخلوق من روح مخلوقة، وإضافة الروح إلى الله على وجه التشريف.
- وبعد أن بيّن الله حقيقة عيسى عليه السلام أمرهم بالإيمان به وبرسله {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي فصدقوا بأنّ الله واحد أحد لا ولد له ولا صاحبة، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله، ولهذا قال تعالى بعد ذلك {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} أي لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين.
ومن جهل النصارى وكفرهم أنهم اختلفوا على طوائف في شأن عيسى عليه السلام فمنهم من يعتقده إلهاً، ومنهم من يعتقده شريكاً ومنهم من يعتقده ولداً.. فهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة وأقوال غير مؤتلفة، ولقد أجاد أحد المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشرة قولاً.