على أن تلك المفاهيم اللغوية إنما نشأت في بيئة عربية كانت حياة الحضر فيها تقابل حياة البادية. ولكن هذه الحالة من التقابل لا تكاد توجد بصورتها التقليدية إلا في جهات قليلة جدا خارج العالم العربي.
ولذلك فإن لفظ الحضارة في مفهومه العالمي ومفهومه الحديث المعاصر بصفة خاصة قد أصبح أكثر اتساعا مما كان يدل عليه في مفهومه اللغوي والتقليدي وإذا كان أصل معنى الحضارة (بفتح الحاء وكسرها) الإقامة في الحضر، فإن المعاجم اللغوية الحديثة تعرف الحضارة في استعمالها المولد بأنها: مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي والاقتصادي في الحضر.
وقد يكون من المفيد معرفة مفهوم لفظتين أخريين لهما في الحياة الإنسانية شأن كبير وأثر واضح. وهما الثقافة والمدنية.
فأصل مادة التثقيف في اللغة العربية: التشذيب والتهذيب والتقويم والحذق والفطانة، والمعاجم اللغوية تعرفها في الاستعمال المحدث بأنها: العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق فيها. ونستطيع أن نقول أنها: تشمل كل ما يتصل بالروح والفكر والعقل والذوق والمشاعر وهي حصيلة الحياة الإنسانية في مجالات الحياة كلها. وتجمع أنماط الحياة الروحية والفكرية واللغوية والأدبية والفنية. ولها صورها التي تتعدد وتتلاقى بين الشعوب والتي يتصل بعضها بتراث الإنسانية المشترك.
ومادة مدن وتمدن متصلة بالمدنية والعيش فيها والأخذ بأسباب الحضارة وقد اتصل لفظ المدنية في المفاهيم الجارية بالجانب المادي والمظهري من الحياة. وذلك من حيث مقوماتها الطبيعية ومنشآتها الملموسة.
وكذلك من حيث الأنماط المعيشية في أسسها المادية وفي صورتها المحسوسة في حياة المجتمع. وما يتصل بهذه المظاهر المادية والمحسوسة في حياة الجماعة من قواعد ونظم وأعراف.
والحضارة بمفهومها الحديث هي: الحصيلة الشاملة للمدنية والثقافة ومجموع الحياة في صورها وأنماطها المدية والمعنوية.