كان العائدون في مطار الرياض يمدون بأبصارهم وخيالهم بعيداً بعيداً، إلى أرض الوطن، فيرون على أرض مطاره، وعلى أبواب دياره، وفي أفنية المنازل، يرون وجوهاً ضاحكة مستبشرة، تفتح الأذرع، وتمد الأعناق.
أما أخوك فكان يمدّ ببصره كما يمدون، ويحلق بخياله كما يحلقون، ولكنه لم يكن يرى إلا عيوناً أطفأها الدمع، ووجوهاً أذواها الأسى.
وآب الغيّاب إلى أهليهم، وآب أخوك إلى أهله ... وفي أول الطريق المؤدي إلى بيتك لقيني طفلك الأكبر، بوجهه المشرق الأزهر، يلعب ويثب مع أطفال الشارع، قال ـ وقد فوجئ بلقيانا ـ: جيتم؟! حتى إذا زالت عنه دهشة الفجاءة عاد يقول: عمي، أبي قد مات، قالها ببراءة وطلاقة ودون مبالاة، وهو لا يدري أي سهم رمى، ولا أي قلب أصمى، وابتدر الدمع إلى عينيّ، ولكنني حبسته بعد غلاب، ومشينا في الطريق إلى البيت، أحمل حقيبة كبيرة في يدي، وطفلك هذا يقفز ويثب من حولي فرحاً مسروراً، يحاول بين الفينة والفينة حمل الحقيبة التي كانت أثقل منه، ووصلنا إلى باب الدار، وعلى عتبة بابها الخارجي كانت أروى ذات العامين تجلس، لقد تركناها حين سفرنا دون فطام، فلم تعرفنا حين العودة، ولم تبد لاستقبالنا أي حراك، لم أقف عندها غير قليل، ثم تجاوزت العتبة إلى من هم وراء العتبات والأبواب ينتظرون، وجدت الوالدة في إحدى زوايا الغرفة تبكي، ومن خلفها زوجك تباكيها، وابنك الأصغر الرضيع مستلقياً على ظهره يحرك يديه ورجليه في خفة ونشاط، دون أن يدري شيئاً مما حوله، كان سلامنا عبرات مهراقة، وقصصاً كثيرة تروي عن مصرعك وجنازتك ودفنك.