ألم تحس به بعد!.. لقد طالما نصحناك وإخوانك بالتخلص من (القلاع) التي استبقاها الفرنسيون لتدمير البلد.. فأبيتم أن تسمعوا.. حتى أوشك هي أن تتخلص منكم..
إن أخطاءنا اليومية قد فتحت الثغرات أمام الأفكار الهدامة، لتغزو قلب الجيل الناشئ، وتسلحه بكل أدوات التخريب.. فبأي علاج تواجهون هذه السموم؟ .. وبأي سلاح ستصدون هذا الهجوم؟!..
إن جهاز الحكم الذي يتكئ على المرتزقة لا يملك صلاحية الصمود طويلاً أمام الأحقاد التي يؤججها التنظيم الحزبي المضلل.. فمتى تفطنون إلى هذا الواقع؟ .. إذا لم ترحموا بلدكم.. فارحموا أنفسكم على الأقل.
وكان فخري يهدر بهذه النُذرُ في حماسة طاغية أنسته واجبات المجاملة، وصرفت ذهنه على ملاحظة الأبهة التي تحيط بمقام الرئاسة.. وبدا في موقفه، وقد صبغت الحمرة عينيه الواسعتين، وتقلصت عضلات وجهه الوردي، وباعد التهيج ما بين يديه، كأنه ملاكم يتحدى خصمه..
على أن حماسة فخري لم تغير شيئاً من تفكير الرئيس ولا مَن حوله من خواص رجال الحكم.. وللمرة العشرين - على الأقل - يسمع مثل هذا الجواب الذي لا يزيده إلاّ حَنَقاً ويأساً: هَوِّنْ عليك يا فخري بك.. إن كل شيء على ما يرام..
ومنذئذ آلى فخري على نفسه ألاّ يعود إلى مثل ذلك الموقف، وأن يهجر العمل السياسي.. ومن ثم أخذ طريقه في صمت إلى مزرعته، لينفض عن مكتبته غبار الزمن، وليستعيد معها بعض عهده الذي كاد ينساه..
وكان فخري غارقاً في مقدمة ابن خلدون عندما انتزعه من غمرته تلك قرع الهاتف الذي أبى أن يسكت، فمدّ يده إليه دون أن يصرف نظره عمّا بين يديه من الكتاب..
- آلو.. فخري بك؟..
- من حضرتك؟.. وما تريد منه؟..
- هنا حسني ...
- حسني!.. نعم.. عرفتك.. ماذا تريد؟..
- أريد أن أراك.. إنني بانتظارك.. هنا في قصر المهاجرين..