وهذه الخصوصية ليست لأبي حنيفة فجميع الأئمة قاسوا الأمور عند عدم وجود النص كما قال الإمام الشافعي:"إذا لم نجد في المسألة دليلاً قسناها على غيرها". فمن اعترض على أبي حنيفة فكأنما اعترض على جميع الأمة. نعم هناك أمر لا بد من الانتباه إليه هو أن الأقيسة قد كثرت عن أبي حنيفة بالنسبة لغيره من الأئمة. والسبب في ذلك هو عدم رحلته إلى الأمصار والمدن والقرى لجمع الأحاديث كما فعل الصحابة والمحدثون والفقهاء. والسبب الثاني هو ما ذكره السرخسي قال:"قلّت الرواية عن أبي حنيفة حتى قال بعض الطاعنين إنه لا يعرف الحديث، وليس الأمر كما ظنوا بل كان أعلم عصره في الحديث وكلن لمراعاة شرط كمال الضبط قلّت روايته"[١٢] .
فهذا التشديد جاء لسبب انتشار الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة في بلاد العجم ومقر الشيعة والخوارج وعدم تمييز الصحيح من غير الصحيح، ولم يتم في عصره وضع الموازين لنقد الأحاديث، ولم تدون الصحاح من غيرها، ولهذا لم يقبل العلماء خبر الآحاد في الأمور الاعتقادية، لأن العقيدة لا تؤخذ إلاّ بالأدلة القطعية كما هو معروف في أصول الشريعة.
وقد طعن بعض الناس في أبي حنيفة بعدم أخذه بخبر الآحاد ولكن الصحيح هو أخذه به وهذا مبسوط في آثار محمد بن الحسن الشيباني وفي كتاب أصول فخر الإسلام وفي الميزان للشعراني وغيرها من كتب الفقه.
فلماذا لا نقول بعد هذه الشبهات الواردة والأعذار الصريحة بأن الإمام أبا حنيفة لم يقصد بكثرة قياسه توهين حجية السنة بل فعل هذا معذوراً، فلو دونت الأحاديث الصحيحة وعثر عليها الإمام لأخذ بها وترك كل قياس قاسه إذا كانت السنة تخالفه. هكذا ينبغي للباحث أن يضع الأمور في موضعها ولا يفرط ولا يقصر ولا يتعصب ولا يتحزب، فكل بني آدم خطاؤون وخير الخطائين التوابون.