وقد انضاف إلى ما في ظاهر هذه الشروط من إجحاف مرارة موقف الأصحاب - رضي الله عنهم - إزاءها، وما داخلهم بشأنها من غم أوفوا معه على الهلاك، وقد زاد الموقف حرجاً تعنت مفاوض قريش بشأن ذكر البسملة، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله في صلب المعاهدة، ثم مجيء أبي جندل بن المفاوض سهيل بن عمرو فاراً بدينه من قريش، وموافقته صلى الله عليه وسلم على رده إليها عملاً بشروط المعاهدة ... وهكذا انعقدت كل هذه السحب الكثيفة الكئيبة في جو هذا الصلح - ومع ذلك احتملها الرسول صلى الله عليه وسلم في صبر ورفق واطمئنان، لأنه- كما قلنا آنفاً - كان يلمح وراء ما الأكمة من تحقيق مصلحة الدعوة، وما كان ينتظرها من ظفر عظيم من جراء هذه الشروط التي فرحت بها قريش، وساء الأصحاب قبولها، ولم يستطيعوا أن يدركوا ما أدركه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من فوائدها، ولا غرو فهو عبد الله ورسوله لا يخالف أمر ربه ولا يضيعه ربه.
وقد حققت الأيام صحة تقدير النبي صلى الله عليه وسلم الأمور، وصواب ما كان يلمحه من مصلحة الدعوة، وما كان لها ألا تفعل، حتى استحق صلح الحديبية هذا أن يسمى فتحاً، يقول الزهري - رحمه الله -: "فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يُكلّم أحدٌ بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر"[٣٣] .
والدليل على صحة قول الزهري - كما يقول ابن هشام - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، في قول جابر بن عبد الله - ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف [٣٤] .