ومن نعم الله على هذه الأمة أن يجعل ذلك لنا في الصوم. وجعله جُنة نتقي بها كل ما نخشاه وننال بها كل ما نتمناه وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الصوم جُنة" كما في صحيح البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين ... " إلى آخر الحديث. وعند النسائي:"الصوم جنة ما لم يخرقها". زاد في الأوسط: قيل بم يخرقها؟ قال:"بكذب أو غيبة". ولعل هذا إشارة إلى الكف عن جميع المعاصي كما نبه عليه حديث:"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
وهنا في جُنة الصائم لم يطالب بترك الزور والعمل به فحسب لأن ذلك مطالب به في كل وقت. ولكنه طولب بترك ما هو له من حق الرد على المعتدي وإسكاته والانتصار لنفسه فإن شاتمه أحد يترك حق الرد عليه وإن كان حقا له ومباحا له إلا أن حق الصيام مقدم وأثر الصوم له فعاليته فكما ترك الطعام والشراب وغيرهما المباحين ومحض حلال له فكذلك يترك حق الرد على من سبه أو شتمه أو قاتله ويرد عليه بقوله:"إني صائم"أن ممسك عن ذلك وفيه وقاية من مجاراة السفهاء والمعتدين لأن الصائم إنسان مثالي ومسلم مسالم بجميع جوارحه لأن التقوى تملأ قلبه فيفيض إخلاصا ومحبة وخشية وخشوعا، ويطهر من الحقد والحسد، والتقوى ستظهر في منطوق لسانه فيكف عن الكذب والغيبة وعن المسابة والمشاتمة بل وعن الرد على من يسبه أو يشتمه..ويقابل الإساءة بالإحسان:"إني صائم". ومثله العين تجللها الوقاية وتحجبها عن النظر المحرم وكذلك الأذن في سماعها وتسمعها. وهكذا بقية الجوارح تصبح في وقاية تامة عن كل منهي عنه. على ما سيأتي بيانه فيما ينبغي على الصائم فعله أو تركه.