نعم لقد فر باستمساكه بالحق من الخزي يوم الفزع الأكبر، وانظر إلى استحضاره العجيب في ذلك الموقف الكئيب، ومن قوله رضي الله عنه: يد الله فوق عباده فمن رفع نفسه وضعه الله، الناس تحت كنف الله يعملون بأعمالهم، فإذا أراد الله بعبد فضيحة أخرجه من تحت كنفه فبدت للناس عورته.
وأما النسك والزهادة ففي ذلك التاريخ الملموس، وتلك المواقف العديدة المشهورة، وفيها آيات بينات على أن طاعة الله وعبادته كانت دعامة حياته، وهي التي غرست في نفسه احتقار الدنيا ومظاهرها حتى ليبدو أن قليلا من كان يستطيع أن ينافسه على ذلك من أمثال، الحسن البصري، وزين العابدين بن الحسين بن علي، وابن سيرين، وكانوا مضرب الأمثال في ذلك المعنى الإسلامي الجليل، فأما سعيد فلم يسمع بمثله دأبا على الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لا تفوته تكبيرة الإحرام في أربعين سنة متوالية، ولا يقبل أن يتخلف عن واحدة منها لأية داعية إلا إذا كان في سجن الظالمين، أو في درس من دروس الصابرين، ثم يندفع سريعا إلى وطنه ويطير إلى وكره، ويقولون في هذا المقام إن عينه اشتكت في بعض الأيام فقيل له لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة هناك، فقال: وكيف أصنع بشهود العتمة والعشاء، فهو مع العتمة والعشاء في صنعته الروحية التي يتخذ بها العهد مع الله، ومن أوفى بعهده منه سبحانه، لقد أذاقهم تلك اللذة فما فتئوا يترقبونها، وقالوا إن بعض خلصائه نصح له وقد تأزم الأمر بينه وبين الحكام أن يمتنع عن صلاة الجماعة بضعة أيام، وكان الحاكم يكتفي بأن يرسل إليه فلا يجده تعظيما لشأنه، فقال سعيد: وأنا أسمع الأذان حي على الصلاة حي على الفلاح، لا يكون ذلك أبدا.