على أنه كان يتسم بسماحة ويسر هي التي أنطقته بهذه الحكمة "لو نازعني أحد ردائي لنزعته له"، وقد آن أن أختم هذا الحديث بقصة طريفة هادئة تحدث عن مقدار ما أثمره فيه العلم والزهد والحصافة وقوة الحق، وهي قصة أوردها المحدثون والحفاظ في تاريخه الحافل، وفيما ينبغي أن يحتذى من المثل في صفات العلماء وأخلاقهم، وهي في شأن ابنته الجميلة الكريمة التي ضن بها على ولي عهد الخليفة وثبت على رفضه مصاهرته مهما لقي من تنكيل، وشأن الطالب الفقير أبي وداعة الذي عرضها عليه وأصر على هبتها له، ولم يملك من حطامها شيئا يذكر، حدّث هذا الطالب بما خلاصته أنه كان يجالس ابن المسيب ففقده أياما، فلما حضر قال له: أين كنت؟ فحدثه بوفاة زوجه، فقال له: ألا أخبرتنا فشهدناها، فلما أراد الانصراف قال الشيخ له: هل استحدثت امرأة؟ قال: رحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين، فقال له: أنا أزوجك، ثم حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم وزوجه على درهمين، قال: فقمت وما أدري ما أصنع من شدة الفرح، ثم عدت إلى بيتي لأتناول إفطاري وكنت صائما وكان طعامي الخبز والزيت، فإذا طارق يقرع الباب، فقلت من؟ قال: سعيد، فأفكرت في كل مسمى بذلك إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير منذ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد وإذا هو سعيد بن المسيب! فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فآتيك، قال: لأنت أحق أن آتيك، قلت فما تأمر؟ قال: إنك كنت عزبا فتزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك ثم دفع ابنته وذهب. قال أبو وداعة فسقطت من الحياء، ثم تقدمت إلى القصعة فأخفيتها، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران فجاءوا.. ثم تطول القصة ولكن من أبرز ما فيها قول أبي وداعة، إنني حين دخلت وجدت أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله وأعرفهم بحق الزوج، فمكثت شهرا لا يأتيني ولا آتيه، ثم عدت إليه فوجه إليّ بعشرين ألف درهم!